نشر رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، الاثنين، مقالا جديدا حول ذكرى انقلاب 14 تموز الذي أسس النظام الجمهوري في العراق، على أنقاض الحكم الملكي، فيما رأى أن ذلك الحدث أرسى نمطا في الحكم أخذ بالتطور تدريجيا، مما جعل الكثيريين يصيغون رؤاهم على تحقيق مصالح آنية شعبوية، على حد تعبيره.
مقاربتي – وما أودّ أن أقولَه – أن هناك نمطاً في الحكم وإدارة الدولة أرسته تلك الحقبةُ وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، حتى أصبح عرفاً سائداً، بل ثقافةً يصعب مواجهتُها، تتعدَّى حدودَ الحاكم وتصل إلى سلوك المحكوم، وهذا آخذٌ بالتطور والتجذّر نظراً للظروف والمناخات التي نمرّ بها أو تلك التي نتأثر بها. وهذا، للأسف، جعلَ كثيرين يتحاشون أي مصارحةٍ لتأسيس مصالحةٍ شاملة، وجعلهم يصيغون رؤًى وتوجهاتٍ قائمة على تحقيق مصالحَ آنيةٍ شعبويّة، تفتقد لرؤيةٍ شاملةٍ طويلة الأمد، تكامليّة مع سابقاتها، تُبعد فكرةَ الشخص وترتقي باسم الدولة والوطن.
أدناه نص المقال، كما أوردته صحيفة الشرق الأوسط:
14 تموز (يوليو) 1958؛ 66 عاماً على حادثٍ ما زالَ محطّ نقاشٍ وجدلٍ بين العراقيين حتى يومِنا هذا. ثمة من يؤمن بخيار الانتقالِ إلى الحكم الجمهوري، وفريق آخر يقول إنَّ الحكمَ الملكيَّ هو الأصلح لبلدٍ معقّدٍ كالعراق. لن أدخل في تقييم هذا الحدث، فله جذورُه وأسبابُه العميقة، ولكن لا يمكن للعاقل أن يستسهلَ أو يستسيغَ «الإبادة» التي حصلت مع العائلة الملكيّة، ولا يمكن تأييدُ أي تغييرٍ قائم على الدم؛ فهذا حدث مؤسّسٌ لأحداثٍ أخرى، ما زلنا نعيش تداعياتها حتى اليوم.
ثمة نظرية معرفيّةٌ لطيفة بعنوان «أثر الفراشة». باختصار، هي وصفٌ لحالةٍ ما؛ أي إنَّ الفروق الصغيرة في الحالة الأولى لنظامٍ متحركٍ ديناميكي قد ينتج عنها في المدى البعيد فروقاتٌ كبيرةٌ في تصرّفات وسلوكيّات هذا النظام. وهنا السؤال: ماذا عن الفروقات الكبيرة؟ ماذا ستُحدث؟
ما جرى في 14 تموز، لا يمكن تجاوزه أو مقاربته من خلال زاوية أو منظارٍ واحد، بل علينا تفكيكُه وتشريحُه، والنظرُ إليه من أكثر من زاوية ومنظار. هذا الحدث – في الأسباب والأهداف والشكل والأسلوب – أسَّس للمراحل المختلفة التي مرّت بها الجمهورية العراقيّة ونظامُها السياسي، وما تلاه من انقلاباتٍ أخرى ووصول صدام حسين إلى الحكم، وسلوكه الذي أدَّى إلى انقطاع العراق كليّاً عن العالم وانعزاله عنه، والآثار المباشرة لذلك على بنية الدولة وفِكر المواطن – على حدٍّ سواء – واندثار مفهومِ الدولة وتكريس فكرة القوّة والخوف من الحزب، إلى لحظة السقوط المدوّي في 9 نيسان (أبريل) 2003، وتداعيات ذلك على الصعيدين المحليّ والإقليميّ حتى يومنا هذا.
الحركةُ التاريخية وتفاعلُ الأحداث وتأثرها بعضها ببعضٍ، وانعكاساتها وتداعياتها؛ توجب فهماً أعمقَ لكل ما يجري من حولنا، داخليّاً وخارجيّاً. فهمُ الأحداث/ الحقبات الماضية وما أرسته أو أسَّست له يعني فهماً للواقع المَعيش واستشرافاً لمستقبلٍ قادم. وليس بالمبالغة إن قلنا إن جمهورية العراق، دولةً ومؤسساتٍ وثقافةَ حكمٍ، تعيش حالةً من التأثر المباشر (الإيجابي والسلبي) بما جرى في 14 تموز.
مقاربتي – وما أودّ أن أقولَه – أن هناك نمطاً في الحكم وإدارة الدولة أرسته تلك الحقبةُ وما زال مستمراً حتى يومنا هذا، حتى أصبح عرفاً سائداً، بل ثقافةً يصعب مواجهتُها، تتعدَّى حدودَ الحاكم وتصل إلى سلوك المحكوم، وهذا آخذٌ بالتطور والتجذّر نظراً للظروف والمناخات التي نمرّ بها أو تلك التي نتأثر بها. وهذا، للأسف، جعلَ كثيرين يتحاشون أي مصارحةٍ لتأسيس مصالحةٍ شاملة، وجعلهم يصيغون رؤًى وتوجهاتٍ قائمة على تحقيق مصالحَ آنيةٍ شعبويّة، تفتقد لرؤيةٍ شاملةٍ طويلة الأمد، تكامليّة مع سابقاتها، تُبعد فكرةَ الشخص وترتقي باسم الدولة والوطن.
ولا بدّ من القول، إنَّ تقييم المقاربات السابقة واللاحقة، بإجراءاتها وقراراتها، لا يمكن أن يكون «أسودَ أو أبيض». فالإنصاف يدعو إلى التفكيك والتشريح وفهم الظروف والخلفيّات والتداعيات، وانتقاء ما هو الأفضل والأنسب للبناء عليه والمضي به واستكماله، وتصحيحٍ هادئٍ لتداعيات بعض الإجراءات والقرارات ذات الأثر السلبي قبل فوات الأوان. وهنا، أيضاً، نستذكر نوري باشا السعيد، الذي سقط ضحيّةَ غيابِ العقل لصالح الانفعال، وسقط ضحيّة التشويهِ والشيطنة لصالح الشعبويّة والخطابات التي صيغت لبناء مناخٍ من الغضب على الواقع ودعوةٍ لتأسيس واقعٍ آخر!
للأسف، لم يتغيّر الواقع كثيراً؛ فقد استُكملت بعض رؤى السعيد ومشاريعه، وصيغت بعضُ الرؤى الأخرى المغايرة لتوجهاته ونُفّذت، وقد ساهمت في ازدياد الواقع سوءاً. في لحظة «الحقيقة» شعر كثيرون بالندم، حتى النخب. وبعيداً عن الخطابات الجماهيريّة، فإنَّها تنظر بعين الحسرة على خسارة رجل دولةٍ حقيقي في حقبة التأسيس للدولة الحديثة. الخسارة المؤسفة لهذا الرجل تتجاوز فكرة «التغييب الجسدي»، بقدر ما تعني كسراً لفكرة الدولة والعقل والهدوء لصالح الفوضى والجهل والانفعال. ما نحتاجه اليوم في العراق، وفي هذه اللحظة وهذه المناسبة، أن نفهم تاريخنا جيّداً: على ماذا تأسست دولتنا؟ وكيف استُكمل هذا المسار؟ على مختلف الصعد. لماذا وصلنا إلى لحظاتٍ صعبةٍ ومصيريّة كادت تطيحُ كلَّ شيء؟ وكيف تم علاج ذلك؟ وهل كانت العلاجات أو العمليّات الجراحيّة تتلاءم مع دقّة التشخيص؟ هذه الأسئلة تُطرح في الغرف المغلقة، ولكن الإجابات دائماً ما تكون مرهونةً بالظروف الآنية أكثر ممَّا هي نظرةٌ استراتيجيّة، تُقدّم المصلحة الشخصيّة على المصالح العامة. فالتحديات التي يعيشها العراق اليوم ليست منفصلة عن تحديات المنطقة والعالم. الأزمات الداخلية المتجذّرة تتفاعل مع أزمات أصبحت هي سمة عالمٍ عاجزٍ عن إنتاج حلول، وعلى رأسها الأزمات الاقتصاديّة. الأثر الحقيقي يكمن في فهم كلّ ذلك، والتشخيص الدقيق واتباع العلاجات وإجراء عمليّات وإن كانت قاسية، لتحقيق ما هو مناسب لصالح الدولة والشعب على المدى البعيد. هذا التحدي هو جزءٌ من عمليةٍ سياسيةٍ تفقد يوماً بعد آخر منذ عقود قيم تقديم الخدمة لصالح تحقيق المكسب، والأخلاق لصالح الشيطنة، والوطن لصالح الزعيم. ثمة تأسيسٌ ممنهجٌ لقيمٍ أخرى ستصبح سمةَ عملٍ سياسيٍّ في العراق، يتلاقى مع قيمٍ مماثلة في إدارة الحكم…
يبقى الأمل موجوداً، وكما قال الكبير محمد مهدي الجواهري:
سينهضُ من صميمِ اليأسِ جيلٌ
مريـدُ البـأسِ جَبـارٌ عنيدُ
يقـايضُ ما يكونُ بما يُرَجَّى
ويَعطفُ مـا يُراد لما يُريدُ