منذ سنوات يشكو سكان الأحياء المحيطة بالمعمل المتلكئ في تطبيق المعايير البيئية، من إنتشار العديد من الأمراض، التنفسية أكثرها شيوعاً، جراء الإنبعاثات الغبارية والغازية، ما يشكل خطراً دائماً على حياتهم، خاصة ما التوسع الحاصل في عمله عقب استثماره من قبل القطاع الخاص
بخطوات متثاقلة تقدمت أمل (59 سنة) نحو الباب الخارجي لمنزلها، توقفت عند كرسي بلاستيكي واتكأت عليه قبل ان تلتفت جانباً وتردد بأنفاس متقطعة وهي تشير إلى معمل قريب للاسمنت كانت أدخنته تتصاعد مشكلة سحابة كبيرة “هذا الذي هدني.. بسببه أنا مصابة بالسرطان”.
تعدد السيدة المتشحة بالسواد، والتي يبعد منزلها الكائن بقرية “آل المطشر” مسافة 300 متر فقط عن معمل “أسمنت السماوة” بمحافظة المثنى الجنوبية، وهي تستخدم أصابع يديها، أسماء ستة أشخاص من جيرانها في ذات القرية، قالت بأنهم جميعا مصابون بذات المرض، جراء الملوثات المنبعثة من المعمل الذي انشأ قبل سبعة عقود ويأملون منذ سنوات اغلاقه أو نقله.
إكتشفت أمل إصابتها بالسرطان سنة 2020، حين راجعت المستشفى بسبب عارض صحي، لكنه الآن بات في المرحلة الرابعة، لذا خضعت لجلسات علاج متعددة بالكيمياوي مع تداخل جراحي لإستئصال ورم في القولون، حسن وضعها الصحي بشكل نسبي وفقا لما تذكر.
تستدرك:”الأطباء لايستبعدون أن يكون سبب مرضي هو غبار ودخان معمل الأسمنت.. أنا واثقة مئة بالمئة أنه هو السبب، سمومه تبعث الموت في كل مكان هنا”.
يقع معمل أسمنت السماوة، في مركز المحافظة، تحيطه مجموعة من الأحياء السكنية والقرى، مثل أحياء الشهداء، و7 نيسان، ودور الشركة، والمشواج، وقرية آل مطشر، ولا تبعد أقرب دار سكنية اليه سوى 100 متر فقط.
وأنشأ المعمل في العهد الملكي وتحديدا سنة 1955، وكان انتاجه من مادة الأسمنت يغطي حاجة كامل المنطقة والفائض يتم تصديره الى دول الخليج، وفي العام 1977 تم فتح خط انتاج دنماركي، ليتوسع الانتاج ومعه كميات الغبار والأدخنة، فيما كانت الأحياء السكنية تقترب منه مع التمدد السكاني الطبيعي الحاصل.
بقي المعمل ضمن عهدة الدولة لغاية سنة 2016، ليشمل بنظام الخصخصة ويصبح تحت ادارة مجموعة استثمارية (شركة السماوة لإنتاج السمنت) بعقد طويل يمتد لـ25 سنة، دون النظر لمشكلة قربه من الأحياء السكنية وما يشكله ذلك من أضرار صحية وبيئية وفقاً لنشطاء ودوائر حكومية معنية.
وتؤكد جهات متعددة، بينها مديرية بيئة المثنى، ان المعمل يلوث البيئة ويهدد الصحة العامة، لكنهم لا يستطيعون اتخاذ أي إجراء لانهاء المشكلة بشكل قطعي فتقتصر جهودهم على محاولة الحد من آثاره الخطرة.
وزارة الصناعة لا تستطيع إغلاقه!
يقول رئيس هيئة إدارة معمل اسمنت السماوة، د.علي عزيز الظالمي، ان المعمل توقف لثلاثة سنوات عن العمل، بعد فترة وجيزة من توقيع شركته عقد استثماره بسبب مشاكل حدثت مع وزارة الصناعة، ليعود العمل سنة 2021، بخطين انتاجيين بواقع 1500 طن يومياً من الاسمنت العادي و3500 طناً يومياً من الاسمنت المقاوم.
وبحسب الظالمي يعمل 150 شخصا في المعمل كموظفين حكوميين، في حين إستقدمت الشركة المستثمرة 350 موظفاً آخرين في مختلف الاختصاصات لتطوير الانتاج، مبينا أن العمل يجري لـ 24 ساعة يوميا، على ثلاث وجبات، كل وجبة لثمان ساعات عمل، ودون وجود عطلة.
وعن وجود قرار بإغلاق المعمل من قبل مجلس محافظة المثنى السابق، ذكر الظالمي، أن قرار المجلس الذي صدر قبل عقد من الزمن الغي في العام 2016 بقرار من لجنة الخبراء التابعة الى رئاسة الوزراء وتحت إشراف وزير الصناعة بالوكالة.
وبدا واثقاً من أي قرار جديد بالغلق لن يصدر مستقبلا، لأن العقد الاستثماري الذي وقعته الشركة المستثمرة للمعمل مع وزارة الصناعة، تترتب عليه مسؤوليات وتبعات قانونية كبيرة على الوزارة في حال توقف العمل.
ونفى رئيس هيئة الادارة، وجود أعطال في المرسبات، كما تذكر بعض المصادر، مما يتسبب بتلوث بيئي “يحدث أحيانا خلل فني في عملها لفترة وجيزة فيتم إطفاؤها مباشرة لحين إصلاح الخلل”.
ويؤكد أن ادارة المعمل لا تشغل في الوقت الراهن “الفرن” لأن إنبعاثاته كبيرة، وما يتم تشغيله هي فقط المطاحن، لأن “ملوثاتها قليلة”، مشيرا الى استمرار تطوير كل أجزاء المعمل “مؤخرا تم شراء منظومة ترسيب سيتم تنصيبها قريباً”.
وعن وجود المعمل وسط التجمعات السكانية، يقول الظالمي، بأن المعمل حين أنشئ، كان يبعد كيلو متراً مربعاً واحداً عن المناطق السكنية، وما حصل هو زحف المناطق السكنية بإتجاهه، وهي عبارة عن مساكن مبنية خلافا للقانون “تجاوز”.
كما اتهم بلدية السماوة، بتخصيص الأرض التابعة للمعمل، أي لوزارة الصناعة، لمواطنين من اجل بناء دور سكنية ملاصقة للمعمل، معرباً عن قناعته بأن وجود معامل الأسمنت وسط الأحياء السكنية، لا آثار خطرة لها “في حالة عملت المرسبات بنحو صحيح لأن العوادم تخرج على شكل أبخرة”.
قرارات غير قابلة للتنفيذ
تأكيدات ادارة المعمل بالإلتزام الكامل بالمتطلبات البيئية ومعالجة الانبعاثات، تتقاطع مع آراء الجهات البيئية وتصريحات نشطاء بيئيين بأن التلوث مستمر، وان المعمل يستخدم نوعيات رديئة من الوقود تسبب تلوثا وتشكل خطراً على صحة الإنسان.
وتمتد قصة انبعاثات المعمل والأضرار البيئية التي يخلفها كما محاولات اغلاقه، الى ما قبل عقد نصف من الزمن، فدائرة البيئة في محافظة المثنى، كانت قد أصدرت سنة 2008 قراراً يقضي بترحيل المعمل إلى خارج المدينة، نظراً للأضرار البيئة التي يحدثها وأثرها على صحة المواطنين.
وشكل مجلس محافظة المثنى وقتها لجنة لتولي دراسة تأثير المعمل على الواقع الصحي والبيئي في السماوة وصوت أعضاؤه في العام 2014 على قرار قضى بترحيله إلى خارج الحدود الإدارية لمدينة السماوة، لكن ذلك لم ينفذ مطلقاً.
مدير دائرة البيئة في محافظة المثنى، يوسف سوادي يقول بأن”معمل اسمنت السماوة يعد من المعامل المؤثرة على البيئة بنحو عام ويصنف من ضمن ملوثات صنف (أ)”.
ووفقا للتصنيف البيئي، فأن الملوثات تقسم إلى (أ عالي ، ب متوسط، ج قليل) والتصنيف (أ) يطلق وفق مستويات الخطورة والتأثير، ويشمل ملوثات كيمياوية خطرة، وأتربة غير طبيعية وإنما فعالة كيميائيا تتفاعل مع جسم الإنسان وتسبب له امراضاً خطرة.
وهذا يؤكد أن معمل اسمنت السماوة مخالف للقوانين البيئية. وتتضمن المادة 33 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم 27 لسنة 2009 “منع بناء المنشآت دون الحصول على موافقة الجهات المعنية بالبيئة”. وتلك الجهات ترى ان المعمل يمثل مصدر تلوث خطر ويجب وقفه.
وبموجب نص المادة عينها، توجه إنذارات وتفرض غرامات على المنشآت المخالفة لمعايير البيئة، ويتم غلقها أو إجبارها على العمل ليلا، ويخضع وضعها لمراقبة دائرة البيئة.
كما يشير يوسف سوادي، إلى أن المعمل مخالف لتعليمات رقم 3 لسنة 2011 التي تفرض مسافة محددة بين مواقع المنشآت والمناطق السكنية والمشاريع الإروائية، ووفق القانون “لابد من إبعاد المعمل مسافة 10 كيلو متر عن حدود البلدية و 5 كيلو متر عن أي تجمع سكني”.
سوادي، يذكر أن محافظة المثنى تضم سبعُ معامِل إسمنت، إثنان منهما تملكهما الدولة، والخمس الأخريات أهلية، وهو يرى بأن المعملان الحكوميان دون المستوى المطلوب وفقاً للمعايير البيئية، في اشارة الى انهما يساهمان في تلويث البيئة.
ويوضح:”هما يعملان بالتقنيات القديمة، فلاتر تصفية قديمة، ومنظومات حرق متهالكة، ولا تستخدم فيهما المرسبات، كما تستخدمان الوقود الأحفوري المضر بالبيئة، بخلاف المعامل الاستثمارية التي تستخدم الغاز وتقنيات الكهرباء”.
ويعلق على وضع معمل أسمنت السماوة، قائلا ان دائرته كانت قد أعدت قبل سبع سنوات دراسة بيئية بشأنه، وتم إتخاذ قرار بغلقه بناءً على نتائج الدراسة التي أثبتت تسببه بمضار بيئية على المنطقة.
غير أن قرار الغلق لم يفعل، خشية فقدان 650 موظفاً يعملون فيه لوظائفهم. كما أن دائرته تلقت لاحقاً تأكيدات من لجنة أسمها (اللجنة الوطنية) أو (لجنة هيئة المستشارين) بان المعمل سيعمل وفقا لمتطلبات دائرة البيئة وتحت انظارها.
للتحقق من الالتزام بالمتطلبات، لم يخف مدير بيئة المثنى، قيام دائرته بالعديد من الدراسات البيئية المعمقة عن تأثير مخلفات المعمل على السكان والأمراض التي يمكن أن تسببها لهم، لكنه قال “لانستطيع التحدث عن تفاصيلها في الإعلام”.
رغم ذلك تؤكد الدائرة انها لا تملك احصائية دقيقة تظهر حجم الملوثات المنبعثة، وتعلل ذلك:”لا تتوفر لدينا أجهزة خاصة بهذا، لكن أحيانا نرى تلك الملوثات بأعيننا المجردة، من خلال زياراتنا الميدانية”.
ويشدد مدير بيئة المثنى، على ضرورة نقل المعمل إلى خارج مدينة السماوة أو إيقافه بنحو كامل:”الحكومة هي المعنية بإيجاد حل للموظفين العاملين فيه، بنقلهم إلى مصانع أو وزارات أخرى، هذا هو الحل لأنه من المستحيل أن يعمل بتقنية حديثة غير مضرة، هذا المعمل عبارة عن مؤسسة كبيرة مليئة بالمشاكل”.
ويضيف مستدركا:”من خلال نقاشنا الدائم مع وزارة الصناعة، نطرح هذا الحل لكن الموظفين هناك يردون على ذلك بقولهم أن نقله غير مجد اقتصاديا، ويحتاج إلى ملايين الدولارات”.
ويخلص الى القول، ان كل ما يستطيعون فعله حالياً، في حال وجدوا أن الانبعاثات كثيرة، هو توجيه إنذارات وفرض غرامات، وهي تتراوح بين 100 إلى 150 ألف دينار ( 76 إلى 115 دولارا) وإذا تكررت المخالفة يتم رفع دعوى قضائية.
تلوث كبير ومسار خاطئ
يتفق مدير دائرة التخطيط في محافظة المثنى، قابل السماوي، مع ما ذكره مدير البيئة، ويقول: “طلبنا بدورنا من وزارة الصناعة، رفع المعمل عن موقعه الحالي، إذ يجب ان يكون بعيداً في الأقل لمسافة خمسة كيلو متر عن التجمعات السكنية”.
ويوضح:”المعمل إنشأ في وقت كانت فيه الأحياء السكنية بعيدة عنه، وكانت أعداد السكان قليلة، في حين أن المدينة مكتظة حاليا، ويعيش الآلاف في محيط المعمل”.
ويشدد السماوي، على اخضاع المعمل للمعايير البيئية، اذا لم تتوفر أي إمكانية لنقله، وذلك بإستخدام:”فلاتر تصفية تعمل وفق التكنلوجيا الحديثة لتنقية الملوثات والهواء”.
ويحمل وزارة الصناعة مسؤولية تنفذ المعايير البيئية “عدم تنفيذها يعني عدم التزامها وبلا مبرر واضح، في وقت ان حجم التلوث في المعمل كبير”، مبينا أن وزارة الصناعة “تحتاج إلى مراجعة تصحيحية لهذا المسار من أجل الحفاظ على البيئة والصحة العامة، فالأولوية يجب ان تكون للإنسان وللمدينة وليس للمعمل والآلات”.
أبو عمار (76) سنة، هو أحد سكان التجمعات القريبة من معمل الأسمنت، يقول بأنه ومجموعة من جيرانه، شكلوا وفداً يمثلون 3000 من سكان المنطقة، وقدموا شكوى في مديرية بيئة المثنى بشأن التلوث الذي يحدث المعمل وأضراره بهم، مطالبين باتخاذ “إجراء حازم”.
“ردوا بأنهم لايملكون صلاحية سوى بتوجيه عقوبة إدارية للمعمل، مع غرامة مالية بسيطة” يقول وهو يبدي يأسه، مؤكدا انتشار الإصابات بالربو في المنطقة على نحو كبير بسبب غبار المعمل.
وفي محاولة لإثارة الموضوع اعلاميا، يقول أبو عمار، انهم استنجدوا بوسائل الاعلام والناشطين المدنيين “قاموا بتصوير المعمل نهارا بما يخلفه من أدخنة وغبار، فتوجهت ادارة المعمل الى تشغيله ليلاً لصعوبة رصد الغبار والدخان المنبعثين وتصويرهما في ساعات الظلام”.
يضيف بحدة: “يشغلونه في الليل لكي يخفوا جريمتهم، والجهات المعنية متواطئة معهم”، مؤكدا انه يسعى مع جيرانه لتنظيم وقفة احتجاجية امام مدخل المعمل، لتنبيه الجهات الرسمية والضغط من اجل إيجاد حل حقيقي للخطر الذي يهددهم.
أضرار بيئية وصحية
يوجه متضررون، جملة من الاتهامات إلى إدارة المعمل، بينها عدم تلبية الإجراءات الخاصة بمعالجة الانبعاثات الضارة، واستخدام نوعية وقود رديئة تشكل خطراً على صحة الإنسان، مشيرين الى ما يصفونه بتواطؤ مع السلطات الرسمية التي تتجاهل المخاطر.
ووفقاً لمصادر مطلعة تواصلنا معها، فأن الوقود الذي يستخدمه معمل السماوة، هو النفط الأسود الذي يمكن أن يولِّد انبعاثات ضارة بيئياً، بما فيها ثاني أكسيد الكربون (CO2 ) وأكاسيد النيتروجين (NOx) وأكاسيد الكبريت ( SOx) الى جانب الجسيمات العالقة في الهواء، وهذه الانبعاثات تسهم في تلوث الهواء وبالتالي زيادة احتمالات اصابة السكان بأمراض خطرة كالسرطان.
وترفض الجهات الصحية الرسمية، التعليق على ربط معمل السماوة بتسجيل الإصابات السرطانية في المدينة. لكن العديد من الأطباء ذكروا أن المعمل يمكن أن يكون مسؤولاً عن حالات مرضية بما فيها السرطان، مشيرين الى صعوبة اثبات ذلك علميا بوجود جملة من العوامل الأخرى تسبب تلك الأمراض.
يقول طبيب، فضل عدم ذكر اسمه، ان الفحوصات التي تجرى في العادة، ترصد حالة مرضية معينة، لكن من النادر أن يتم تحديد سبب معين لها إلا إذا كان معروفا بأدلة قاطعة، وان الأسباب التي تحدد هي في غالبيتها إحتمالية وتقديرية.
لكن هناك مؤشرات تبرز وجود مشكلة في هواء المنطقة المحيطة والقريبة من المعمل تخلق مشاكل صحية محددة.
فالطبيب محمد شاكر، مدير مستشفى الحسين التعليمي واختصاصي الأمراض التنفسية والصدرية، يؤكد بأن 70% من مراجعي المستشفى لديهم مشاكل في الجهاز التنفسي، وأن كثيرين ممن يعانون من حساسية في القصبات الهوائية أو الربو يسكنون قرب معمل اسمنت السماوة.
ويقول:”عند اجراء المسوحات الميدانية للعائلات التي تسكن قرب المعمل، نجد أن فردا في كل واحد منها في الأقل يعاني من حساسية القصبات الهوائية أو حساسية أنفية”.
ويحذر من خطورة انبعاثات المعمل على الجهاز التنفسي، مبيناً أن حالات كثيرة من الربو وحساسية القصبات الهوائية لا تشفى بسهولة “قد تتطور الأعراض بالتقادم الزمني لتصبح أمراضاً مستعصية كالأمراض السرطانية والتليف الرئوي”.
وعاد للتأكيد:”بحسب المؤشرات سكان المناطق القريبة من المعمل، ومنذ سنوات طويلة تظهر عليهم آثار أمراض ويتعرضون الى أزمات صحية مزمنة”.
عدم وجود احصائيات
وينفي مدير مستشفى الحسين التعليمي، وجود إحصائية دقيقة ومفصلة لدى مديرية صحة السماوة أو لدى مشفاه، عن المرضى في المحافظة:”حتى إن وجدت أرقام بعدد المرضى فان نوعية الأمراض لاتذكر، بسبب الإخفاق في عمل نظام الإحصاء والتوثيق الرقمي، وبعض الموظفين يضعون ارقاماً وهمية لمجرد انجاز العمل”.
ويتهم مدير المستشفى، الحكومة بعدم وضع خطط لتحسين البيئة، وعدم إشراكها خبراء في المجال الصحي باللجان المتخصصة التي تقدم استشارات فيما يتعلق بتأثير التلوث البيئي على الصحة العامة.
ويستدرك: “دائما هنالك اختصاصات أخرى، هي من تدير الملف الصحي، بدلاً من من أصحاب الخبرات والإختصاص”.
أم مصطفى، التي يقع منزلها بالقرب من معمل اسمنت السماوة، تعاني هي أيضاً من أعراض حساسية القصبات الهوائية وكذلك حساسية جلدية:”في البداية ظننتها حساسية موسمية، لكن الأمر تطور إلى بقع حمراء خشنة في وجهي، كأنه مرض خبيث، الطبيب أبلغني بأن سببها الغبار الذي يخرج من المعمل”.
وتذكر السيدة أن ابنها (21 سنة) كذلك يعاني منذ صغره من حساسية في القصبات الهوائية، وأن الجميع يعرفون بأن المعمل هو المسؤول “طبقات الغبار تتراكم على أثاث منازلنا بعد كل كم يوم من تنظيفها، أحيانا حتى ثيابنا التي في الدواليب نكتشف طبقة من الغبار عليها، فكيف برئاتنا؟!”.
وتقول ان الضرر لم يعد مقتصرا على صحة الناس، بل وصل الى تهديد الزراعة التي هي مصدر دخل أساسي لسكان المنطقة، مشيرة الى ان بستان العائلة الذي كان يضم تسعين نخلة قبل سنوات، وكان يؤمن جزءا من متطلبات معيشتهم، فضلاً عما يزرعونه من بقوليات، لم يتبق فيه سوى 25 نخلة بسبب دخان المعمل والأتربة التي ينفذها “حتى المنتجة منها نشعر بأن ثمرها ملوث وكأنه مسموم”.
لذلك هي الأخرى تؤيد دعوات، حصول حراك مدني واسع بما فيه خروج السكان في تظاهرة للمطالبة بغلق المعمل ونقله إلى مكان آخر، بعد فشل المؤسسات الحكومية المعنية في التحرك لحل المشكلة.
تقصير جهات رسمية
تظهر تصريحات وتعليقات المسؤولين الحكوميين خلال المقابلات التي أجريناها معهم، أن الجهات الرسمية على علم كامل بتأثيرات معمل أسمنت السماوة، غير أنها لم تبد أي جدية في التحرك لمعالجة المشكلة.
ويشكو موظفون في بيئة المحافظة، من عدم اطلاعهم على كافة الأجزاء في المعمل خلال الزيارات التفتيشية الميدانية. وهذا ما يؤكده المهندس في دائرة البيئة عمران كريم: “يمنعونني من زيارة كل المرافق لتنفيذ واجبنا الرقابي، بل ويشعرونني من خلال تصرفاتهم، أنني غير مرغوب فيه”.
ويذكر بأن المعمل في ساعات الليل يصدر الانبعاثات “ربما المستثمر يعتقد أن عمل المراقب يقتصر على النهار فقط، أكثر من مرة تصلني مقاطع فديو صورها الأهالي القريبون للمعمل ليلا، للأتربة والدخان المتطاير منه”.
ووفق ما لديه من معلومات، يستبعد اغلاق المعمل رغم المخالفات الحاصلة مكانياً وبيئياً “مع ذلك تمت إحالته إلى مستثمر، وتم تزويده بمحطة كهرباء ضخمة وزود بالكوادر الوظيفية”.
وينبه المهندس البيئي إلى أن المرسبات في معمل أسمنت السماوة قديمة، وتصدر ذرات الغبار الناعمة التي تتطاير في الجو فتتسبب بمشاكل تنفسية وأمراض أخرى، خاصة ان المستثمر “لا يشغل الأفران بسبب التكلفة العالية للمواد الأولية، ويلجأ إلى الكلنكر المستورد من إيران بسبب قلة تكلفته ليحقق جدوى اقتصادية لهم كما يقولون”.
والكلنكر الإسمنتي هي مادة صلبة تنتج في صناعة الأسمنت كمنتج وسيط. تنتج الكلنكر على شكل كتل أو عقيدات، يبلغ قطرها عادة 3 ملم (0.12 بوصة) إلى 25 ملم (0.98 بوصة).
ويضيف المهندس عمران، أن من المسلم به مساهمة مصانع الأسمنت الملوثة في “إطلاق العديد من الغازات الدفيئة مما يؤدي إلى زيادة احترار الأرض وتغير المناخ، وتعمل هذه الغازات على زيادة تركيز الحرارة في الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى تغيرات جوية متطرفة”.
معدة التحقيق تواصلت مع أحد المهندسين العاملين في معمل أسمنت السماوة، الذي تحدث بشرط عدم الاشارة الى اسمه، ولم ينف حصول انبعاثات ضارة في بعض الفترات، مبررا ذلك:”أحياناً المرسبات والفلاتر لاتعمل، وأحياناً تحدث أعطال، وعندما يتوقف الترسيب ينبعث التراب ويخرج للأعلى”.
ويعود للتأكيد أن الكوادر المتخصصة تتوجه سريعاً لإصلاح أي عطل يحصل، سواءً كان ميكانيكياً أو كهربائياً، ويستدرك: “لكن المرسبات الموجودة قديمة، ولم تتغير طريقة العمل كثيراً منذ عشرين سنة”.
والسبب الآخر الذي يسوقه، هو أن “المعمل ومنذ احالته الى الاستثمار، يعمل ليل نهار بدون توقف، والفرن ليس دائم التشغيل مما يعني وجود ملوثات”.
وعن سبب استخدامهم لمادة الكلنكر المستوردة، يقول المهندس في معمل السماوة انهم اضطروا لذلك “بعد أن رفعت وزارة النفط أسعار النفط الأسود الذي كنا نعتمد عليه، والكنلنكر أرخص”.
تلك المعلومات تؤكد ان المعمل يساهم بتلويث البيئة، وان الحكومة المحلية والمؤسسات المعنية تتعامل بعدم اكتراث مع تهديد تلك الملوثات لحياة آلاف من سكان مقتربات المعمل.
احدى الجهات المتهمة بالتقصير في معالجة المشكلة، هي وزارة الصناعة، وفقاً لنائب رئيس مجلس محافظة المثنى السابق، ورئيس تجمع الحفاظ على البيئة علي حنوش، الذي يقول انه وخلال فترة عضويته في المجلس، تواصل مع المعنيين بوزارة الصناعة بشأن ما يخلفه المعمل من أضرار بيئية، لكن موقفهم كان سلبيا إزاء “القوانين التي تحمي البيئة ومنع التلوث”.
ويضيف:” كانت الوزارة دائما تعرقل تنفيذ محاور التقارير التي تصدر من المجلس ووزارة البيئة بحجة عدم استطاعتها نقل العاملين، ولا أستبعد أن أموالاً تدفع لكي يستمر المعمل، على الرغم من عدم كفاءته البيئة، وعدم امتلاكه للعوازل التي تمنع المواد الملوثة، أسوة بمعامل الأسمنت الأخرى” على حد قوله.
فضلاً عن شهادته كعضو سابق في مجلس محافظة المثنى، يقول حنوش بصفته مواطناً من المنطقة:”عائلتي كانت تملك قبل سنوات بستاناً قريبا من المعمل، وحين كنت أجني الرطب من أشجار النخيل هناك، كنت أجد طبقة سميكة من الغبار على عثوك التمور، ذلك الغبار يلوث النباتات والأشجار ويؤثر على نوعية انتاجيتها مما يسبب ضررا اقتصاديا كبيراً”.
ويصف الوعود التي تطلقها إدارة معمل الأسمنت لشراء مرسبات تقليل الملوثات بالخادعة، متهما أجهزة الدولة بالتواطؤ مع ادارة المعمل:”هي لا تهتم لمصادر التلوث، والإجراءات البيئية ضعيفة وان تم تقديم شكاوى ضد المعامل يتم اهمالها”.
في قرية آل مطشر القريبة، تقول ميادة (43 سنة) بإن اثنين من أولادها أصيبوا بتحسس القصبات الهوائية المزمن، بينما تم تشخيص إصابتها هي بالربو قبل أكثر من سنة.
أحدهما يبلغ من العمر 15 سنة، ويعاني بشكل دائم وفقا لميادة من الحساسية ونوبات السعال منذ أن كان صغيراً.
وتقول:”الأسمنت والغبار يغطينا، لكن لا حيلة لنا، ليست لدينا امكانية مالية للانتقال إلى مكان آخر، ولا نعرف كيف نوقف هذا الخطر الذي يزداد تهديده يوماً بعد آخر”.
خوف وجهل بالقانون
الحقوقي حيدر العوادي، يعزو عدم لجوء أهالي المناطق القريبة من معمل أسمنت السماوة الى القضاء إلى الجهل القانوني لديهم، خاصة في ظل عدم وجود خدمات قانونية للفئات المتضررة من البيئة والمناخ في العراق “الغالبية العظمى من المتضررين من انبعاثات معمل الأسمنت هم من الفئات الهشة من المجتمع، أناس بسطاء متوسطو التعليم يسكنون العشوائيات”.
ويقول ان المتضررين من المعمل يعتقدون بأن الإجراءات القانونية غير مجدية وطويلة وقد لا تنظر فيها المحكمة أصلا “فلا سابقة لشكوى مماثلة في المحافظة، وهنالك تردد وخشية مع قناعات بأن جهة سياسية هي خلف إدارة المعمل”.
ودعا المتضررين إلى التخلص من تلك الهواجس، والتحرك لإقامة دعوى قضائية، معربا عن قناعته بأنها الوسيلة الأفضل لغلق مصدر الضرر، بل وتقديم التعويضات للمتضررين “بمجرد رفع دعوى ستقوم المحكمة بانتداب خبراء لمعرفة وقياس حجم الضرر ومقدار الأثر البيئي، ووفق النتيجة ستتخذ قرارها”.
ويوضح أن حالات التلوث بصورة عامة هي مخالفات قانونية، تنظر فيها المحاكم المدنية، ويمكن تنفيذ الاجراءات والعقوبات على المخالفين وفقا للمواد 32, 33, 34, 35 من قانون حماية وتحسين البيئة رقم (27) لسنة 2009. كما ان التعويض يتم وفقا للقانون المدني رقم 40 لعام 1951 “وتبقى السلطة التقديرية للقاضي في تحديد نوع الضرر ومبالغ التعويض”.
وحمل الحقوقي وزارة البيئة مسؤولية عدم فرض العقوبات الرادعة بحق إدارة المعمل كالإغلاق لفترات على سبيل المثال، على الرغم من الأضرار التي يسببها “وعدم الإلتزام بالمعايير القانونية التي وضعها المشرع لحماية البيئة والتي تلزم وضع فلاتر لمنع التلوث”.
علياء (23 سنة) متزوجة حديثاً، ومنزلها قريب جداً من معمل الأسمنت، كما تقول، وحتى قبل زواجها، كانت تسكن مع أسرتها في منطقة قريبة، تعاني من حساسية القصبات الهوائية، منذ أن كان عمرها ثماني سنوات. تشير إلى المعمل:”بمجرد أن أشاهد الغبار يتصاعد، اتناول دواء الحساسية، لأنه يخفف عني نوبة السعال والاحتقان”.
وعلى أثر تناولها الدائم لأدوية الحساسية باتت تعاني من السمنة، ولم تفلح كل محاولاتها في إنقاص وزنها، كما يعاني شقيقها البالغ 26 عاما من الحساسية، تشير الى المعمل ثم تضيف بنبرة حزن:”أنا حامل بطفلي الأول، ولا أعرف كيف سأجنبه سموم هذا المعمل”.
هي مثل الآخرين في التجمعات السكنية القريبة مستسلمة للواقع، ومتيقنة من أن خلف ادارة المعمل أصحاب سلطة ونفوذ سيمنعون أي محاولة لنقله او اغلاقه. تقول بابتسامة ساخرة: “أنا واثقة من أن الحكومة مستعدة لنقلنا نحن أهالي المنطقة على أن تنقل معمل الأسمنت، لأننا فقراء ولا نملك سنداً يحمينا”.
انجز التحقيق تحت اشراف شبكة “نيريج” ضمن مشروع الصحافة البيئية الذي تديره منظمة أنترنيوز.