26 Nov
26Nov

بعد أربع سنوات من نشره فيديو على صفحته الشخصية بموقع فيسبوك، واجه الشاب حمزة عباس ملاحقات قضائية كادت ان تنتهي به للحبس بسبب ما كان يراه مجرد تعبير عن رأي، في ظل اجراءات تنفيذية – قضائية تشكل تهديدا لمئات من مشاهير صفحات التواصل، ويمكن أن تصبح أداة لملاحقة مدونين وصحفيين وشعراء بتهمة “المحتوى الهابط”.

عباس (24سنة) من مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد) يتابع حسابه على (تيك توك) نحو خمسة ملايين شخص، يقدم محتوى اجتماعياً منوعاً يعبر فيه أحياناً عن آرائه التي قد لاتتوافق دائما مع الرؤية العامة في المجتمعات التي يخاطبها.

نشر الشاب في شهر أيار/مايو2019 مقطع فديو عبر فيه عن عدم تقبله للهجتين “الموصلية والبغدادية” وذكر بأنهما “لاتليقان بالرجال”، وتلقى بعدها بدقائق قليلة إتصالاً هاتفياً من والده يطلب منه حدف الفديو على الفور، ليتجنب عواقبه، فقام بذلك على الفور، حسبما يقول.

غير أن أحد متابعيه كان قد تمكن من حفظ الفديو خلال ذلك الوقت القصير، وأعاد نشره بعدها بأيام في حسابٍ على فيسبوك خاص بأهالي مدينة الموصل، وطالب الجهات الأمنية بالتدخل واعتقال عباس ومساءلته عن إسائته.

“نشرت على حسابي الخاص في فيسبوك كلمة اعتذار، وذكرت بأنني أخطأت، وأنني لم أكن أقصد الإساءة إلى أي أحد”، يقول عباس انه اعتقد أن المشكلة إنتهت عند ذلك الحد.لكن بعد أربع سنوات أعاد شخص نشر مقطع الفديو، وتحديداً في أواخر نيسان/أبريل 2023، لتقوم قوة تابعة للأمن الوطني باعتقاله مع والده.يتابع:”حاولت أن أبين لهم بأن المقطع قديم وأنني اعتذرت عنه، إلا أن ضابط التحقيق أخبرني بأن علي تحمل أخطائي”.

استمر التحقيق ليومين مع عباس، قبل إطلاق سراحه مقابل تعهدات وقع عليها، إلا أنهما كانتا كفيلتين بإحداث أثر عميق في نفسه، ولاسيما أنه يعتقد بأنهم تعاملوا معه كمجرم، وليس كشخص يقدم محتوى اجتماعياً ترفيهياً، مما جعله يتعامل بحذر شديد مع كل ما يقدمه ويتجنب أي قضية قد تثير الرأي العام أو تعد محتوى هابطاً في نظر الشرطة والقضاء.

خلال أقل من عامين، تم ملاحقة واعتقال المئات من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، بتهم نشر محتوى مسيء للمجتمع، عدد كبير منهم نساء حققن شهرة واسعة من خلال بثهن لمقاطع فديوية تضمنت تعليقات وصفت بالجريئة والخارجة عن المألوف الاجتماعي، لكن كان بين المعتقلين من يقدمون محتوى ساخر وآخر اجتماعي ناقد، وفي الخلفية اعتقل شعراء وصحفيون.

وكان مجلس القضاء الأعلى العراقي قد أطلق في الثامن من شباط فبراير2023 حملة عرفت بـ( مكافحة المحتوى الهابط) في وسائل التواصل الاجتماعي، لتؤكد تعاونها مع وزارة الداخلية التي كانت قد شكلت لجنة خاصة لذات الغرض، وخصصت منصة الكترونية تحمل أسم (بلغ) لإستقبال شكاوى المواطنين فيما يرونه مواداً هابطة في وسائل التواصل الإجتماعي.

بعد أقل من شهرين على انطلاق الحملة “الأمنية القضائية” لملاحقة صانعي المحتوى بمختلف مضامينهم، صدرت أحكامٌ قضائية ضد العشرات وزج بهم في السجون، ليضطر البعض إلى وقف أنشطته وغلق منصاته، أو حتى إلى النزوح إلى أقليم كردستان أو أبعد من ذلك بالهجرة إلى خارج العراق كما حدث مع العديد من صانعات المحتوى.

هذا التحقيق، يسلط الضوء على تداعيات حملة مكافحة المحتوى الهابط على الرأي العام، والمخاوف من شمولها مدونين وأصحاب رأي او استغلالها كأداة لتضييق الحريات بما فيه حرية التعبير في وقت تستمر مشكلة الفساد وتُسجل ملفات كبرى يفلت أصحابها من المحاسبة، بينما تجبر صاحبات محتوى على الهجرة وتقرر آخريات الاستمرار رغم خطر الاعتقال في ظل تحول محتواهن الى مصدر أساسي لمعيشتهن.

ملاحقات قضائية

بعد أيام قليلة من إطلاقها منصة بلغ، أعلنت وزارة الداخلية عبر المتحدث باسمها خالد المحنا، تلقيها 96 ألف بلاغاً من مواطنين عن المحتوى الهابط في وسائل التواصل الاجتماعي، دون الكشف عن سقف زمني محدد للحملة أو حصيلة لما نجم عنها من اعتقالات، وفي ظل العجز عن ايجاد إجابة دقيقة بشأن كيفية تحديد “المحتوى الهابط”.اكتفى المحنا بالقول أن هدفها هو:”تصحيح المسار وتشجيع المحتوى الإيجابي، بهدف اعطاء رسائل واضحة عن ماهية المجتمع العراقي والوجه الحقيقي للشاب والشابة العراقية”، ونفى أن تكون الحملة قد حدت من حرية الرأي في البلاد إذ قال:”جميع الحريات مكفولة بالدستور العراقي”.وتعتمد الجهات القضائية في الغالب على نص المادة 403 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 في توجيه التهم ضد المعتقلين المحالين إليها ضمن حملة مكافحة المحتوى الهابط.

وتنص هذه المادة على:”يُعاقَب بالحبس مدّة لا تزيد عن سنتين وبغرامة لا تقل على مائتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الأداب العامة. ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو في غير علانية.

 وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأية وسيلة كانت، ويعتبر ظرفًا مشددًا إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق.القاضي في محكمة تحقيق الكرخ الثالثة المختص بقضايا النشر والإعلام عامر حسن، أكد في تصريح صحافي، بأن مصطلح (المحتوى الهابط) أصله القانوني هو “الجرائم المخلة بالأخلاق العامة أو الفعل الفاضح الذي يخل بالحياء العام”.

وعبر عن اعتقاده بأن هذه الجرائم قد “تحولت إلى ظاهرة وبدأت تؤثر على المجتمع والأسرة والأجيال الناشئة وسلوكياتها” وأن تحرك الدولة بمختلف مؤسساتها هو بهدف الحد منها.

وقال بأن مجلس القضاء الأعلى، كان قد بادر في 2021 إلى تشكيل لجنة مشتركة من عدة جهات برئاسة مجلس القضاء وعضوية ممثلين عن هيئة الإعلام والاتصالات، ونقابة الصحفيين، ونقابة الفنانين، وجهاز الأمن الوطني، ومجموعة أخرى من أجهزة الدولة “تكون معنية برصد حالات التجاوز الذي ينشر على وسائل التواصل الاجتماعي وملاحقة مرتكبيها وفق أحكام القانون”.

وذكر بأن تلك اللجنة لم تمارس عملها بسبب انتشار جائحة كورونا، وفي 2022 قام مجلس القضاء الأعلى بإلغائها:”بعد تشكيل محاكم للنشر والإعلام”، وطلب من وزارة الداخلية أن تشكل لجنة منها حصراً تتولى رصد الحالات المخالفة للقانون التي “تتضمن نشر محتوى يسيء إلى الأخلاق العامة أو يتضمن فعلاً فاضحاً” وعرضها على محكمة تحقيق الكرخ المختصة بقضايا النشر والإعلام التي يتولى هو شخصياً مهامها.

محام ينشط في محاكم استئناف منطقة الرصافة، طلب عدم الإشارة إلى اسمه لكي لايتعرض إلى عقوبات من نقابة المحامين التي تمنع المحامين من التصريح لوسائل الإعلام إلا بتخويل منها.يقول بأن مجرد توصيف المتهم بأنه صانع محتوى هابط:”أمر منافٍ للدستور العراقي، وذلك لأن المتهمين الذين هم أصلا أبرياء حتى تثبت إدانتهم، سوف يتعرضون الى وصمة مجتمعية”.

ويضيف:”المحتوى الهابط شعبياً، يعني أمراً يتعلق بالجنس، سواءً بالصورة أو بالصورة والصوت أو فقط بالمفردات، وبما أن المجتمع العراقي فيه نسبة تدين كبيرة، فأن الجهات التي اطلقت الحملة تركز على اعتقالاتها التي طالت فتيات ليل وتقدمهن على أنهم صناع محتوى، ولا تركز في المقابل على عشرات الاعتقالات التي تطال صناع المحتوى السياسي أو الاجتماعي المتضمن نقدا لمنظومة الفساد في مؤسسات الدولة”.

وينتقد ظهور ضباط في وسائل الإعلام، يصفون صناع المحتوى “الذي يعتقدون بأنه هابط” على أنهم مجرمون “وهذا انتهاك واضح وصريح لمبادئ حقوق الإنسان”.

ويضيف:”إن تناولنا الموضوع من الناحية القانونية، فان وزارة الداخلية ليس من شأنها أن تتدخل في هذه المسائل، حتى وإن كان هنالك تعاون بينها وبين مجلس القضاء الأعلى”.

معدة التحقيق حاولت بتواصلها المتكرر مع وزارة الداخلية الحصول على إحصائية بأعداد من تم اعتقالهم بناء على التبليغات، غير أنها لم تحصل على إجابة، لكنها حصلت على مجموعة من الأحكام القضائية التي صدرت ضد صانعي المحتوى.

منها حكم بالحبس لسنتين أصدرته محكمة جنايات الكرخ برئاسة القاضي عبد الستار بيرقدار، صدر في 12شباط/فبراير 2023 في الدعوى المرقمة 607، ضد نور عصام عبد الرحمن محمد رشيد، الملقبة بـ(عسل حسام) والتي  تقدم نفسها كبلوغر وعارضة أزياء، بتهمة نشر محتوى مخل بالآداب العامة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة