توفي أمس الإثنين الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية المصري السابق نبيل العربي بعد صراع مع المرض أبعده من الأنظار خلال الأعوام الأخيرة، في وقت نعته وزارة الخارجية المصرية ووصفته بأنه كان "أحد أعمدة الدبلوماسية المصرية ورموزها المضيئة على مر العصور، وأن التاريخ سيظل شاهداً على الدور الوطني الذي قام به في ملحمة التحكيم الدولي لاسترداد أرض طابا الغالية للسيادة المصرية".
وأعلن دبلوماسيون مقربون من الأسرة نبأ وفاة العربي الذي عمل سابقاً سفيراً لبلاده لدى الأمم المتحدة، وشارك في مفاوضات كامب ديفيد عام 1978 التي أفضت إلى إبرام معاهدة السلام بين القاهرة وتل أبيب في مارس (آذار) 1979، بصفته رئيساً للإدارة القانونية بوزارة الخارجية المصرية آنذاك، فضلاً عن عمله قاضياً في محكمة العدل الدولية خلال الفترة بين عامي 2001 و2006، ثم وزيراً لخارجية مصر عقب الإطاحة بنظام مبارك عام 2011.
وبينما كتب المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي عبر صفحته على منصة "إكس" قائلاً "رحم الله صديق العمر الدكتور نبيل العربي وأسكنه فسيح جناته، عرفته أخاً كريماً وإنساناً صادقاً وزميلاً عزيزاً كرس حياته لخدمة وطنه وأمته"، كما كتب سفير مصر السابق لدى قطر محمد مرسي قائلاً "فقدت الدبلوماسية المصرية اليوم رجلاً من أعظم رجالاتها"، مضيفاً "فقدنا مدرسة مميزة في الدبلوماسية والقانون الدولي وفن التفاوض، وكنت واحداً من مئات الدبلوماسيين وغيرهم الذين تتلمذوا وتعلموا المهنة على يديه"، مختتماً حديثه بالقول "نبيل العربي مدرسة دبلوماسية وقانونية مميزة نهل منها كثير من الدبلوماسيين وأنا أحدهم، واستمرت علاقات التلميذ بالأستاذ حتى قبيل وفاته اليوم بأيام قليلة".
حياته ونشأته ومحطات صعوده
يعد نبيل العربي المولود في القاهرة في الـ 15 من مارس عام 1935 دبلوماسياً وسياسياً ورجل قانون بارز في حياة الدبلوماسية المصرية، فعقب تخرجه في كلية الحقوق بجامعة القاهرة عام 1955، ثم حصوله على درجة الماجستير في القانون الدولي والدكتوراه في العلوم القضائية من مدرسة الحقوق بجامعة نيويورك، التحق بالخارجية المصرية التي تدرج فيها حتى وصل لأعلى قمتها وزيراً لها عام 2011 عقب الإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك، وطوال العقود الأولى من عمله في الخارجية المصرية تدرج في السلك الدبلوماسي المصري، وكانت أولي المهمات البارزة في حياته المهنية مشاركته كمستشار قانوني للوفد المصري المفاوض في "مؤتمر كامب ديفيد" للسلام في الشرق الأوسط عام 1978، إذ كان حينها يتولى رئاسة الإدارة القانونية في وزارة الخارجية.
وعن تلك المفاوضات كتب نبيل العربي في مذكراته "طابا... كامب ديفيد... والجدار العازل ــ صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية"، أن "مؤتمر كامب ديفيد الذي عقد خلال الفترة من الرابع وحتى الـ 17 من سبتمبر (أيلول) 1978 لم يكن بالسوء الذي يصر عليه الذين يهاجمونه، ومع ذلك لم تكن نتائجه إيجابية على النحو الذي يطلقه المدافعون عنه"، مقراً في الوقت ذاته أن ذلك المؤتمر "دخل القاموس السياسي العربي من أضيق أبوابه، وأصبح يرمز إلى بدء مسلسل تنازلات عن ثوابت القضية الفلسطينية ورضوخ للإدارة الأميركية، وهو تصور لا يتسم بالدقة ويحوي كثيراً من المبالغات والمغالطات".
وبعيد توضيحه التفرقة بين "وثيقة كامب ديفيد" التي وقعت في سبتمبر عام 1978 وبين "معاهدة السلام" التي وقعت في واشنطن في الـ 26 من مارس عام 1979 من حيث أن "وثيقة كامب ديفيد تضمنت النص على الانسحاب الإسرائيلي الشامل وممارسة مصر سيادتها على كامل سيناء، إضافة إلى حرية الملاحة للسفن الإسرائيلية في القناة وخليج السويس، طبقاً لاتفاق القسطنطينية، والاستخدام المدني للمطارات التي تتركها إسرائيل في سيناء، ثم بعض ترتيبات أمنية، ولا تشمل الوثيقة أية إشارة إلى ما يطلق عليه التطبيع أو أية التزامات إضافية على مصر، اللهم إلا إشارة إلى إنهاء المقاطعة وأهمية استكشاف إمكان تنمية اقتصادية"، وقد استعرض على حد وصفه أبرز إيجابيات وسلبيات كامب ديفيد.
وفي هذا الجزء ذكر العربي في مذكراته أن أبرز إيجابيات كامب ديفيد "كانت ضمان الانسحاب الإسرائيلي إلى الحدود الدولية، فيما ثبت أن المعنى القانوني للقرار (242) بما يعنى انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها بالقوة العسكرية عام 1967، وإقرار مبدأ انتشار قوات تابعة للأمم المتحدة ينشئها مجلس الأمن"، بينما جاءت أبرز السلبيات في "حدوث شرخ ضخم في العالم العربي وارتفاع أصوات تطالب بعزل مصر"، متابعاً أنه وعلى رغم أن "وثيقة كامب ديفيد تضمنت بعض إشارات إيجابية لمصلحة فلسطين، مثل الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، لكنها أحجمت عن الإشارة إلى حق تقرير المصير للفلسطينيين، وهو ما دفعني إلى رجاء الرئيس أنور السادات عدم التوقيع عليها".
وبعيد إقرار اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، عُين العربي سفيراً لبلاده لدى الهند خلال الفترة ما بين عامي 1981 و1983، وذلك قبل أن يترأس وفد مصر المفاوض في إنهاء النزاع مع إسرائيل حول طابا، وهي آخر النقاط التي أخلتها الدولة العبرية في شبه جزيرة سيناء عام 1989، وهي المفاوضات التي استمرت أربعة أعوام خلال الفترة ما بين عامي 1985 و1989، وكانت "أهم إنجاز في حياته المهنية" على حد وصفه.
وبحسب ما كتبه العربي في هذا الشأن عبر مذكراته، فقد قال إنه "لا شك في أن النجاح في مسؤولية ملف استعادة طابا من الاحتلال الإسرائيلي إلى السيادة المصرية يمثل أهم إنجاز في حياتي المهنية"، معتبراً أنه في بداية تلك المهمة لم يكن "يعرف طبيعة الخلاف حول طابا وأنه مرتبط بنقاط ترسيم الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب، وهي النقاط التي تلاعبت فيها إسرائيل بعد احتلالها الأراضي الفلسطينية شرق مصر، ولسيناء في هزيمة 1967 التي غيرت طبيعة الصراع العربي - الإسرائيلي من نزاع على وجود إلى نزاع على حدود".
وبعد انتهاء مهمة استعادة طابا، وخلال فترة تسعينيات القرن الماضي، شغل العربي منصب سفير بلاده الدائم لدى الأمم المتحدة في جنيف (1987-1991) قبل أن ينتقل إلى مقر المنظمة الأممية في نيويورك خلال الفترة ما بين عامي 1991 و1999، وهو آخر منصب تولاه في الخارجية المصرية قبل أن يتقاعد بعده.
ومع بداية الألفية الجديدة عاد العربي للعمل الدولي من خلال وجوده قاضياً في محكمة العدل الدولية ما بين عامي 2001 و2006، كما شغل منصب رئيس مركز التحكيم الدولي وكان أيضاً عضواً في لجنة الأمم المتحدة للقانون الدولي من عام 1994 وحتى عام 2001، وكذلك عضواً في محكمة التحكيم الدائمة في لاهاي منذ عام 2005، وذلك قبل تكليفه في ديسمبر (كانون الأول) 2009 بإعداد الملف المصري القانوني لاستعادة تمثال الملكة نفرتيتي من برلين.
وخلال عمله قاضياً في محكمة العدل الدولة كان العربي من ضمن القضاة الذين أصدروا حكماً تاريخياً في يونيو (حزيران) 2004 بإدانة الجدار العازل التي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، واعتباره غير قانوني.
من الخارجية إلى الجامعة العربية
بعد تقاعده من العمل الدبلوماسي والقانوني خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، أظهر العربي في أكثر من مناسبة عدم رضاه عن سياسات بلاده الخارجية، ولم يكن يدرك أن تطيح ثورة قريبة اندلعت أحداثها في الـ 25 من يناير (كانون الثاني) 2011 بنظام الرئيس المصري حسني مبارك، ضمن ما عرف حينها بأحداث الربيع العربي، ليأتي بعدها على رأس الدبلوماسية المصرية بترشيح مباشر مما عرف حينها بـ "ائتلاف شباب الثورة"، فبعد الثورة بنحو شهرين وبالتوازي مع وجوده عضواً في لجنة الحكماء التي شكلت أثناء اندلاعها، أعاد رئيس الوزراء المكلف حينها عصام شرف العربي للواجهة الدبلوماسية مرة أخرى، إذ أسند إليه حقيبة الخارجية في السادس من مارس عام 2011 خلفاً للسفير أحمد أبو الغيط، الأمين الحالي للجامعة العربية، والذي كان يشغل ذلك المنصب منذ عام 2004.
وخلال فترة توليه الخارجية المصرية وعلى رغم قصرها، بدا أن العربي غير راض عن سياسات أسلافه في الدبلوماسية المصرية، معتبراً أنها "سياسات عفا عليها الزمن"، وأن القرارات تصدر عشوائياً وبصورة أحادية، وتجلت تلك الرؤية النقدية للعربي في إحدى مقالاته التي كتبها عبر "صحيفة الشروق المصرية" المستقلة في أعقاب الإطاحة بنظام مبارك، إذ دعا فيها إلى مراجعة السياسة الخارجية المصرية وخصوصاً في ما يتعلق بموقف القاهرة من الحصار المفروض على قطاع غزة، معتبراً أن السياسة الخارجية المصرية لم تكن خلال الأعوام الأخيرة "تعالج بأسلوب علمي عصري يؤدي إلى اتخاذ القرارات بعد درس متأن لجميع أبعاد المسائل المطروحة بواسطة خبراء متخصصين".
وحينها أوضح العربي في مقالته أن "مصر لها وزن كبير ودور تاريخي مهم، ولها إسهامات في جميع المجالات الدولية وليس فقط في العالم العربي ومحيطها الأفريقي، ولا يليق أن تتسم سياساتها الخارجية والمواقف التي تتخذها بالارتجالية أو مخالفات جسيمة لقواعد أساس في القانون الدولي"، معتبراً أن الموقف الذي "تتبناه القاهرة تجاه الحصار المفروض على قطاع غزة يتعارض مع قواعد القانون الدولي الإنساني التي تحرم حصار المدنيين حتى في أوقات الحروب"، مشيراً في الوقت ذاته إلى ضرورة التزام مصر بالمعاهدات الإقليمية والدولية.
ومن بين أبرز المواقف التي اتخذها العربي خلال توليه الخارجية المصرية على مدى شهرين تحذير إسرائيل بلهجة شديدة من الإقدام على أي عمل عسكري ضد غزة، وهو ما قوبل باستنكار إسرائيلي شديد، كما طالب تل أبيب بدفع فروق أسعار الغاز المصري المصدّر إليها منذ عهد حسنى مبارك، وهي القضية التي كانت محط نقاش واسع في أعقاب سقوط مبارك.
ولم يمر شهران على وجود نبيل العربي على رأس الخارجية المصرية حتى قررت القاهرة ترشيحه لمنصب الأمين العام لجامعة الدول العربية في مايو (أيار) عام 2011 لخلافة عمرو موسى في المنصب، وذلك بعد أزمة أحدثها ترشيح القاهرة للدبلوماسي مصطفى الفقي لتولي المنصب مع قطر، دفعت الأخيرة حينها لترشيح وزير خارجيتها عبدالرحمن بن عطية، ونال ترشيح العربي حينها بدلاً من الفقي توافقاً بين القاهرة وقطر، أعقبه سحب الأخيرة مرشحها ليتولى على إثرها منصب الأمين العام للجامعة حتى عام 2016.
ومع حجم التحديات العربية التي كانت تواجهها المنطقة خلال تلك الفترة على وقع ما عرف حينها بأحداث "الربيع العربي" المندلعة في كل من ليبيا وسوريا واليمن وتونس ومصر، بدت المهمة أمام العربي شاقة وصعبة، وهي التي قال عنها في تصريحات عدة ولقاءات إعلامية إن "الأمة العربية نواجه تحديات كبرى تهدد وجود دول ومجتمعات عربية بأكملها"، معتبراً أن الجامعة العربية "لا تقوم بدورها بسبب غياب الإرادة السياسية العربية، وانصراف الدول أحياناً إلى تحالفات أخرى، فضلاً عن الخلافات التي تنشأ بين بعضهم والتي تشل مجهودات التقدم".
وعلى مدى أعوام عمله على رأس الجامعة العربية اتخذ العربي مواقف تجاه الأحداث التي مرت بها المنطقة، فشهدت فترته قرار تعليق عضوية سوريا في الجامعة العربية في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011 لحين قيامها بتنفيذ الخطة العربية لحل الأزمة السورية، كما دعت الجامعة العربية الجيش السوري إلى "وقف قمع التظاهرات مهددة بفرض عقوبات سياسية واقتصادية على نظام الأسد، وكذلك ساند العربي في مصر ثورة الـ 30 من يونيو عام 2013 والإطاحة بحكم "الإخوان المسلمين" من مصر، كما بشر في نوفمبر عام 2014 بإنشاء اتحاد جمركي عربي عام 2015، وسوق عربية مشتركة تبدأ عملها عام 2020، وذلك قبل أن يترك المنصب عام 2016 لخلفه الأمين الحالي أحمد أبو الغيط.