أنعشت موجة الأمطار الغزيرة التي شهدها العراق خلال فصلي الشتاء والربيع في العام الحالي، آمال الفلاحين بموسم زراعي وفير الإنتاج، كما أعادت الأمل لسكان الأهوار بالعودة لحياتهم الطبيعية وممارسة مهنهم في تربية الجاموس وصيد الأسماك، بعد أن ارتفعت فيها مناسيب المياه لتحيي الأمل باستمرارها كمنظومة بيئية فريدة بعد أن كادت تنقرض بسبب الجفاف وشح الأمطار وتحول مساحات شاسعة منها إلى أراضٍ جرداء.
ويقول الشاب فرحان جاسم (23 عاما)، أحد سكنة الأهوار في محافظة ذي قار، خلال حديث لـه، إن “زيادة منسوب المياه ستُساهم في تحسين دخلنا اليومي وتنعش الحياة في الأهوار بشكل عام حيث ستساعد في نمو النباتات المائية، وتوفير موطن للحيوانات مثل الطيور والأسماك، وجذب المزيد من السائحين إلى المنطقة”.
ويخشى جاسم، من “عدم استمرار هذا التحسن طويلا، خاصة مع استمرار الجفاف وقلة هطول الأمطار، لذا نطالب الحكومة بتقديم المزيد من الدعم للحفاظ على الأهوار، هذا الموئل الطبيعي للعديد من الحيوانات والطيور والأسماك”.
وتشتهر محافظات ذي قار وميسان والبصرة بوجود أكثر عدد من الأهوار وأكبرها فيها، وتتراوح مساحة هذه المسطحات المائية بين 35 إلى 40 ألف كيلو متر مربع، ويمتهن سكانها صيد الأسماك والطيور وتربية الجاموس، إلى جانب الزراعة ومهن أخرى شعبية كصناعة الزوارق، ومواد مصنوعة من نبات البردي تدخم في تشييد سقوف المضايف والبيوت الريفية.
بدوره، يعبر علي عامر (50 عاما)، صاحب زورق يعمل في الأهوار بذي قار، خلال حديث لـه، أن “هناك مخاوف لدى السكان المحليين من انحسار المياه مجددا وموت الأهوار مرة أخرى، لذلك نحن بحاجة إلى رعاية حقيقية من قبل الجهات المعنية، خاصة وأن الأهوار تعد مصدر رزق للكثير من العائلات”.
ويشير إلى أن “ازدياد عدد السائحين في الأهوار يتيح فرصة لتنمية المنطقة وتحسين اقتصادها، فهذا الأمر لا ينعكس علينا فقط نحن أصحاب الزوارق وسكان الأهوار بل على عموم مدن المحافظات حيث ستنشط الحكة الاقتصادية”.
يشار إلى أن السياحة في الأهوار بدأت بعد العام 2003 بشكل خجول لكنها تزايدت بمرور السنوات، وعندما اجتاح تنظيم داعش المحافظات الغربية والشمالية وانقطعت الطرق المؤدية إلى إقليم كردستان الذي قصده العراقيون في المناسبات والأعياد وفصلي الربيع والصيف، اتجهت الأنظار إلى الأهوار، وفي السنوات الأخيرة شهدت السياحة طفرة نوعية من حيث أعداد السياح العراقيين والعرب والأجانب، خصوصا بعد زيارة بابا الفاتيكان لمحافظة ذي قار في آذار مارس 2021، ما نشط السياحة الدينية لمدينة أور الأثرية لزيارة بيت النبي إبراهيم من قبل وفود مسيحية عراقية وغير عراقية.
بدوره، يوضح مدير الموارد المائية في ذي قار، هاشم محيبس، خلال حديث له ، أن “الأمطار الأخيرة في العراق أسهمت في زيادة المخزون المائي للبلاد، خاصة في شمال ووسط البلاد، لكن الكميات التي هطلت في ذي قار كانت قليلة مقارنة ببقية المحافظات، حيث بلغت 9ملم فقط في عموم المحافظة”.
ويستدرك “الموجة المطرية ساعدت في زيادة منسوب نهر الغراف الداخل للمحافظة من شمالها، المتفرع من دجلة، ليصل إلى 123سم بعد أن كان 115سم، أما نهر الفرات، فيحافظ على ذات المنسوب المائي، حيث أن الأمطار هطلت في الجهة الشرقية من البلاد، بينما يساعد المنسوب الحالي في الفرات على بقاء الأهوار بمنسوب جيد، حيث بلغ حتى الآن 102سم”.
ويتابع “فضلا عن ذلك، توجد تصاريف مائية من السدة القاطعة الواقعة بين الجبايش وقضاء المدينة والمغذية من نهر دجلة، حيث تقوم بتزويد الأهوار بشكل يومي بـ10 متر مكعب في الثانية”.
لكن هذا الانتعاش الطفيف لا يعني أن سكان الأهوار ومحيطها الريفي لديهم القدرة على مواجهة الضرر، إذ سجلت منظمة الهجرة الدولية في تقرير أصدرته في نيسان أبريل الماضي، ذكرت فيه أن التغير المناخي والتدهور البيئي الذي شهده العراق تسبب بحالات نزوح بين المجتمعات الريفية إذ توجه الآلاف إلى مراكز المدن لغرض الاستقرار.
ورصدت المنظمة من منتصف أيلول سبتمبر 2023 نزوح أكثر من 21 ألفا و700 عائلة بواقع 130 ألفا و788 فردا، أغلبهم من المحافظات الجنوبية، وما تزال هذه المناطق في حالة نزوح بسبب حالات التغير المناخي، وكانت ذي قار الأكبر عددا بحالات النزوح إذ وصل عددهم إلى 7890 عائلة، تليها ميسان، ومن ثم النجف.
من جهته، يؤكد قائممقام قضاء الجبايش في ذي قار، كفاح الأسدي خلال حديث لـه ، أن “المياه داخل أهوار القضاء أخذت بالتحسن نتيجة ارتفاع مناسيب المياه بعد الأمطار التي شهدتها البلاد وأسهمت هذه المناسيب بغمر أجزاء من الأراضي التي جفت في الفترة الماضية”.
ويتابع “هناك جهد آلي تعمل به وزارة الموارد المائية إذ تقوم بأعمال تطهير وتوسيع للجداول المائية للمحافظة على الكميات المائية الواردة للأهوار، وهذه الظروف تنعكس إيجابا على السكان المحليين الذين يأملون أن يبقى الوضع على ما هو عليه”.
وأعلنت وزارة الموارد المائية في الخامس من آيار مايو الجاري، عن استثمارها لكميات الأمطار التي هطلت في جميع أنحاء البلاد، إذ تم تعزيز الخزين المائي لسدود الموصل، ودوكان، ودربنديخان، وحمرين، والعظيم، وتحويل كميات من المياه التي وردت في نهر الزاب الأعلى إلى السدود الرئيسية وبحيرة الثرثار لتعزيز نهر الفرات بالإطلاقات المائية خلال فترة الصيف.
وأشارت إلى أن السيول الأخيرة القادمة من المنطقة الشرقية تم الاستفادة منها في زيادة الواردات المائية إلى الأهوار، خصوصا هور الحويزة والأهوار الوسطى مما أدى إلى زيادة نسب الإغمار فيها.
إلى ذلك، تشرح التدريسية في جامعة ذي قار والمختصة في الجغرافية البيئية، منار ماجد، خلال حديث لـه، أن “ملف المياه بشكل عام يحتاج إلى حلول جذرية تستند إلى أسس علمية وتجارب دولية، وليس إلى حلول ترقيعية”.
وتُؤكّد أن “الأمطار الأخيرة، مهما كانت كميتها أو مساهمتها في زيادة المناسيب المائية، لا تشكل حلا كافيا، بل يجب الاعتماد على تدخل مع دول المنبع، كما أن مشكلة أخرى تتمثل بالتجاوزات الحاصلة على الكميات الواصلة إلى مناطق الجنوب، حيث يتم التجاوز عليها من قبل المحافظات الوسطى والشمالية”.
ومع حلول كل فصل صيف تضرب الأهوار والأراضي الزراعية أزمة مائية تؤدي إلى انحسار مساحات كبيرة في الأهوار وتقليص الخطط الزراعية بسبب شح المياه الواصلة إلى البلاد من دول المنبع، وأحيانا تبلغ الأزمة ذروتها في بعض المحافظات وتؤثر سلبا على تغذية محطات مياه الشرب بالكميات الكافية لانخفاض مناسيب الأنهار المغذية لها وتحولها إلى ضحلة يعصب تنقيتها.