بعد ترميمه الذي حافظ على طرازه المعماري والتراثي، تحول شارع المتنبي مؤخرا إلى مركز جذب للعوائل البغدادية، والسائحين العرب والأجانب على حد سواء، ولم يعد مقتصرا على المثقفين والأدباء والباحثين كما في السابق، ما شجع المستثمرين على افتتاح مقاهٍ ومطاعم للوجبات السريعة، أشعلت مخاوف لدى مرتاديه القدامى من تهديد هويته الثقافية والتراثية، موافقات رسمية من قبل الجهات المعنية، أبرزها أمانة بغداد.
صبا حسين (41 عاما) الموظفة بإحدى دوائر الدولة، تتحدث قائلة، عن زياراتها المتكررة مع العائلة إلى شارع المتنبي، قائلة "فاجأتنا الحلّة الجديدة التي ظهر بها الشارع، وشجعتنا علي ارتياده، خصوصا بعد إحياء الحياة الليلية فيه".
وتضيف حسين، "نذهب أنا وزوجي وأبنائي الإثنين، وأحيانا مع صديقاتي إلى الشارع للترفيه ومعايشة الأجواء الساحرة فيه ليلا، والاستمتاع بمشاهدة معالمه التاريخية، وشواهده الجميلة".
وحول إمكانية اقتناء الكتب منه، تتحدث "بصراحة لا أملك وقتا للقراءة بحكم عملي وعدم امتلاكي وقتا إضافيا"، تبتسم مستدركة "ولكن مشاهدة بسطات الكتب وانتشار المكتبات على جانبي الشارع، تشعرني بمتعة كبيرة".
يشار إلى أن شارع المتنبي في بغداد المعروف بشارع الثقافة والأدب تحول إلى مقصد للأسرة العراقية والأدباء والفنانين والمثقفين العراقيين بعد إعادة إعمار شارع وسط العاصمة بغداد بحلته الجديدة، وأصبح معلما متاحا للزائرين بهدف الاستمتاع بالفعاليات الفنية والثقافية التي تقام فيه.
من جانبه، يؤشر كريم حنش، أحد أشهر وأقدم الكتبيين في شارع المتنبي، خلال حديث له، إلى "تحول شارع المتنبي إلى موقع سياحي بالدرجة الأولى، وبدأت تقاليده تندثر بعد أن أصبح شارعا ليليا، كما خلق الانفتاح فيه ظاهرة صخب وهرج لم تكن موجودة، وبات مكانا لحفلات غير لائقة باسم وعراقة هذا الشارع".
ويضيف حنش، أن "الشارع بدأ يفقد هويته تدريجيا، وتحول إلى شيء آخر غير كونه شارعا تراثيا يفترض الحفاظ على أصالته وديمومته، فقد صارت بعض المكتبات فيه محالا تجارية لا صلة لها بالكتب أو الثقافة، وكل ذلك حصل بموافقة الأمين السابق لأمانة بغداد"، متهما "موظفين في الأمانة" بـ"الاستحواذ على الشارع عن طريق أصدقائهم، مقابل حصولهم على نسب معينة من المشاريع التجارية التي يقيمونها داخله".
ويسترسل في ذكر مشاكل أخرى، تحول دون الحفاظ على الشارع، أبرزها "غلاء الإيجارات التي أدت لإغلاق الكثير من المكتبات، إضافة لكثرة المتنافسين وانتشار أكشاك الأطعمة والمشروبات، فما يحدث الآن يدل على أننا في عصر التفاهة والاستعراضات الممسوخة"، لافتا إلى أن "الشارع يفتقر الآن إلى خصوصيته أو وظيفته الأساس وهي تجارة الكتب، فالجيل القديم أمثالي بدأ لا يستطيع مواجهة غول التحديث غير المدروس وغير المنطقي".
ويضم شارع المتنبي المكتبة العصرية وهي أقدم مكتبة في الشارع إذ تأسست عام 1908، بالإضافة إلى مقهى الشابندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة، فضلاً عن العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع.
في مقابل تلك النظرة "السوداوية" لشارع المتنبي، ترى آية ضياء، التي تنتمي للجيل الجديد من الكتبيين، خلال حديث لـه، أن "ما يميز شارع المتنبي عن باقي شوارع العالم هو كونه بازاراً دائماً للكتب، وهو قبلة لكل سائح ومكان مميز للمواطن، ولا ضير في الاعتناء بهذا الشارع، كونه موقعا سياحيا، وهذا يتطلب تواجد عدد من المحال التي تقدم الوجبات والمشروبات وغيرها".
وتجد ضياء، التي تمتلك واحدة من دور النشر في شارع المتنبي، أن "من المناسب استغلال المحال أو الدرابين المهملة وإحيائها بطريقة تجعل من هذا المكان مُستغلاً بالشكل الصحيح وليس استبدال المكتبات وإلغاءها"، لافتة إلى أن "فقدان الهوية الكتبية لهذا الشارع هي نذير بنهايته وفقدانه لمرتاديه الحقيقيين".
وعلى الرغم من احتوائه على بنايات تاريخية تعود لعقود وقرون سابقة، إلا أن شارع المتنبي تأسس كشارع للثقافة في العام 1932، خلال عهد الملك فيصل الأول، وهو يحمل اسم الشاعر الشهير أبو الطيب المتنبي (915-965 ميلادية) الذي عاش في عصر الدولة العباسية.
وتعليقا على تلك الآراء، يؤكد مدير بلدية الرصافة ليث الكعبي، خلال حديث لـه، أن "لشارع المتنبي خصوصيته وهويته الثقافية"، ولن نقبل بتغييرها"، موضحا "فما زالت المكتبات في الطوابق الأولى للبنايات تحافظ على هويتها ببيع الكتب ولم تتغير".
ويبين الكعبي، أن "الطابق الأرضي للبنايات ما زال مخصصا لبيع الكتب، كما أن باقي المكتبات في شارع المتنبي ما زالت تحافظ على استعمالها وصورتها الثقافية ولا تغيير فيها إطلاقا".
وحول افتتاح مطاعم ومقاهٍ جديدة، يوضح الكعبي، قائلا إن "هناك محلا واحدا فقط، وهو عبارة عن مطبعة سابقة تحولت إلى مطعم للأكلات السريعة، وقد كان صاحبه حصل على موافقة المدير السابق للبلدية"، بالإضافة إلى "مقهى في الطابق العلوي حاصل على موافقة في عهد أمين بغداد السابق، علاء معن، الذي افتتحه بنفسه".
ويتابع "نضع في حساباتنا خطورة مثل هذا التغيير في الشارع، إذ يمكن أن يشجع البعض على تغيير طبيعة العمل وتحويل المكتبات إلى محال ومطاعم، لذا فإننا شددنا على الجميع بالالتزام بالطابع الثقافي والتراثي للشارع، بمن فيهم الحاصلون على موافقات بإنشاء محال ترفيهية، وقد نضطر لإغلاق بعضها في حال حدوث مخالفات"، لافتا إلى أن "البلدية تتابع الأمر، لأن شارع المتنبي أصبح أيقونة ثقافية للبلاد، ومن غير الممكن السماح بتغيير معالمه أو صورته كما تغيّرت الكثير من الشوارع".
وعن كيفية حصول موافقة على افتتاح مثل هذه النشاطات التجارية، يوضح الكعبي "كان هناك ما يشبه الاستبيان فيما إذا كان الشارع بحاجة إلى مطعم خفيف للزوار ومرتادي الشارع، وعلى أساس نتيجته تم إبداء الموافقة بالافتتاح".
وتعرض شارع المتنبي كغيره من شوارع بغداد لعدة تفجيرات خلال فترة التدهور الأمني بعد عام 2003، إلا أنه شهد في آذار مارس 2007، الهجوم الأعنف بسيارة ملغمة، أدى لمقتل ما لا يقل عن 30 مرتادا وتدمير العديد من المكتبات والمباني، وتكفلت وقتذاك هيئة عراقية أهلية تهتم بالشأن الثقافي برصد مبلغ 100 ألف دولار لإعادة تأهيله، وتم تشكيل لجنة مشتركة من وزارة الثقافة ووزارة البلديات ومجلس محافظة بغداد لإعادة إعمار الشارع المتنبي وتمت إعادة افتتاحه في 18 كانون الأول ديسمبر 2008.