هل كل كسر للقواعد التقليدية في الدراما هو نجاح حقيقي؟ وماذا لو كان هذا الكسرللمتعارف عليه فنياً يقود لفوضى وليس خلق فني جديد؟ هذا نموذج لما حصل في " الجنة والنار" المسلسل الرائج في العراق هذه الايام.
كان من المقرر أن يُعرض المسلسل بعنوان مغاير "ذي قار ترحب بكم" خلال شهر رمضان 2024، لكن القنوات التلفزيونية أحجمت عن شرائه لأسباب تجارية وتصنيفية. الثيمة الرئيسة للمسلسل، التي ارتبطت بقضايا طائفية حساسة، كانت من أبرز الأسباب وراء هذا التردد. وعلى الرغم من أن المسلسل سعى إلى تقديم رؤية مختلفة، إلا أن ارتباطه الوثيق بالمواضيع الطائفية جعله محل جدل وأثار ردود فعل متباينة.
يُحسب للمسلسل كسره للعديد من القواعد التقليدية في الدراما العراقية. من استخدام التمثيل المسرحي المتكلف إلى التغيير في عناصر المونتاج وتصميم المشاهد، قدّم المسلسل تجديدًا على عدة مستويات، حتى في موسيقى المقدمة التي استُبدلت بخطبة مسموعة لرجل الدين أحمد الوائلي. مع ذلك، افتقر المسلسل إلى رؤية فنية ناضجة في تعامله مع موضوعات معقدة جاءت كلها في سلة واحدة لا تسعها.
التناص مع ثيمة إشكالية
أحد أبرز السلبيات المسجلة على المسلسل هو تناصه غير المبرر مع معركة الطف الشهيرة التي وقعت عام 61 هـ. إذ حاول المسلسل إعادة صياغة الأحداث التاريخية وربطها بالشخصيات الدرامية بطريقة مربكة، مما أثار استياء المشاهدين والمهتمين بالتاريخ الديني. هذه المقارنة غير المدروسة بين الشخصيات التاريخية وأبطال العمل قوبلت برفض واسع، إذ لم تنجح في بناء علاقة منطقية بين الأحداث والشخصيات.
مشكلات فنية و إخراجية
من الناحية الفنية، أشار النقاد إلى تشابه واضح بين هذا المسلسل والفيلم المصري "ريش"، الذي حاز على جائزة في مهرجان كان، رغم أن الجمهور المصري رفض الفيلم وغادر السينمات في منتصف العرض. لكن المشكلة الكبرى تكمن في أن هذه التجارب الدرامية لا تصلح لتكون هوية شاملة للدراما العراقية أو السينما المصرية، لرصانة القواعد التي بُنيت عليها لعقود. فنيًا، لا تنتهي المشكلة بقتامة الصورة ورداءة تسجيل الصوت حتى استحال إلى ضوضاء وتلوث سمعي، خاصة في المشاهد الخارجية. كما كان ضعف حركة الكاميرا وعدم التناسق في المشاهد من أبرز عيوب المسلسل.
فالكاميرا كانت غالبًا ثابتة، بينما يتنقل الممثلون خارج الكادرات بشكل غير مبرر، مما أدى إلى فوضى بصرية وتشتت في المشاهدة.
كذلك، لم يكن استخدام الصور المقدسة في المشاهد مبررًا فنيًا، بل بدا كمحاولة واضحة لاستغلال المشاعر الطائفية لاستجداء عاطفة المشاهدين بشكل مباشر وغير فني أو إبداعي، وهو ما أثقل على العمل وأفقده طابعه الفني. كما أن السرد والحبكة بديا غير مترابطين، وفشلت عناصر الغرائبية التي تم توظيفها في إضافة قيمة للعمل، نتيجة غياب التمهيد المناسب لهذه القفزات الغرائبية.
ضعف الأداء التمثيلي
على مستوى التمثيل، لم يكن هناك أداء مميز باستثناء بعض الممثلات اللواتي قدمن أدوارهن بهدوء وتركيز، مما جعل المتابعين يتواصلون معهن بعقولهم لا بعواطفهم. في المقابل، بدا أداء الممثلين الذكور باهتًا وغير مقنع.
فعلى سبيل المثال، قدّم أمير عبد الحسين أداءً باردًا يفتقر إلى التفاعل الحسي والجسدي، بينما طغى الأداء المسرحي المبالغ فيه على أداء سنان العزاوي، مما أفقده التوازن مع الأحداث الدرامية وأدى إلى فقدان المصداقية. كما استعان بالصراخ والعصبية وسرعة الحديث مع طول المشاهد الحوارية، وكان يفقد السيطرة على اللهجة الجنوبية، فتخرج لنا لهجة بغدادية بشكل هجين مع محاولاته، التي تُحسب له، لاستعادة اللهجة بسرعة ولو بشكل تمثيلي مصطنع ومتوتر.
التناص مع شخصيات تاريخية
اللعب على موضوعة "فاوست" ودمجها مع السردية الكربلائية أضرّ بجوهر العمل. إذ كان التناص بين شخصية "حيدر" في المسلسل وشخصية الحسين بن علي التاريخية غير مبرر، ولم يكن هناك توازن أو توافق بين دوافع الشخصيات الدرامية والشخصيات التاريخية. كما أن مشاهد التلامس والقبلات بين "حيدر" وأخته "زينب" أثارت جدلاً واسعًا، خاصةً وأن هذه العلاقات لا تتناسب مع الشخصيات التاريخية.
هذا التناص بين شخصية حيدر والشخصية التاريخية الحسين بن علي، وبين الشخصية الدرامية زينب والشخصية التاريخية زينب بنت علي، كان غير مبرر. فلا دوافع الشخوص واحدة، ولا حتى المتخيل الشيعي يسمح بهذا التناص. والأخطر من ذلك كان سحب موضوعة الطعن بالشرف في المسلسل وتطبيقها على المعادل التاريخي زينب بنت علي، التي لم تكن سرديتها مبنية، لا من قريب ولا من بعيد، على عقدة الطعن بالشرف، فهي شخصية تاريخية لم تُبنَ سرديتها على هذا النوع من العقدة.
فشل في تقديم بيئة الجنوب العراقي بشكل واقعي
على الرغم من أن المسلسل كان فرصة لرؤية بيئة الجنوب العراقي بشكل غير متكلف، إلا أن الطرح بدا سطحيًا ومكررًا. فقد صوّر المسلسل الجنوب كمنطقة مليئة بالرجال العاطلين عن العمل الذين ينخرطون في المشاكل القبلية، مما أعطى انطباعًا نمطيًا وساذجًا عن هذه البيئة.
كان من الممكن تقديم الشخصيات بشكل أكثر تعقيدًا وإنسانية، تسلط الضوء على حياة الشباب في ذي قار بعيدًا عن العنف والتقاليد القبلية الصارمة، بلا فذلكة وتحميلات تاريخية غير مطابقة. كان من الممكن لموضوع "شيطان فاوست"، أي الشخصية الدرامية "فرج"، أن يكون مكتفيًا بذاته دون تداخل مع تاريخ حاد ملتهب، لا تسمح تابوهاته بتقليده والبناء الدرامي عليه إلا كما هو نصًا في "التشابيه" الممسرحة في موسمها في محرم.
هل أساء المسلسل للشخصيات التاريخية؟
من وجهة نظر العديد من المتابعين، نعم، إذ وقع المسلسل في فخ تشويه الشخصيات التاريخية غير القابلة للتقليد أو الأنسنة بشكل عصري. عندما يتجاوز العمل حدوده الفنية وينسخ الشخصيات التاريخية كما هي، فإنه يخاطر بتقديم نسخة مشوهة وغير واقعية، وهو ما حدث في هذا المسلسل. ربما فعل المسلسل ذلك عن غير قصد متعمد، فهكذا موضوعة جاذبة لها حدودها في البيئة المتدينة والمحافظة كما في العراق، وفي جنوبه بالتحديد. إذا تجاوز النسخ حدود "قص لصق" بين الحقيقي التاريخي والمتخيل، وقعت العملية في تشويه وأنسنة الأيقونات الدينية غير القابلة للتقليد بشكل عصري في زمننا، إلا كمادة مفروزة ومعروفة مسبقًا بصفة "التشابيه الحسينية".
ختامًا
في نهاية المطاف، أضاع المسلسل فرصة حقيقية لتقديم رؤية مختلفة عن جنوب العراق وحياة الناس هناك.
بدلاً من تقديم شخصيات واقعية ومعقدة، اختار العمل الطريق السهل الذي يعتمد على الصور النمطية، مما أفقده الكثير من المصداقية. رغم محاولته كسر القوالب التقليدية في الدراما العراقية، إلا أن "ذي قار ترحب بكم"أو " الجنة والنار" لم يتمكن من تجاوز العديد من العقبات الفنية والسردية التي قيدت نجاحه. فجاء، ولو بصورة أكثر حرفية من مسلسل "بيت الطين" الريفي التجاري الشهير، إلا أن الشخصيات هي هي، بفارق أن "الجنة والنار" ميلودراما، بينما "بيت الطين" مسلسل كوميدي. كنا نطمح أن نرى بنات وشباب ذي قار بشخصيات هي بعينها، ولكن كبشر لهم حياة يومية لا تتوقف عند العنف والمراسيم العشائرية وأحزان الطائفة والنواح على طول وعرض المسلسل.
مع أن أغلب الممثلين والمخرج مصطفى الركابي (33 سنة) منهم ومن بيت الدراما هناك، إلا أننا رأينا المدينة والناس ببعد واحد فقط، بعد فقير فنيًا وسرديًا، تعكّز على موسم محرم وعاطفة التشابيه للشخصيات المقدسة.
وللتذكير، فإن موضوعة "التشابيه" التي تُعرض سنويًا في شهر محرم هي بنية مسرحية خاصة، فضاؤها مفتوح وعفوي، حيث يشارك فيها ممثلون غير محترفين، والجمهور يعرف مسبقًا حبكتها ونهايتها. ومع هذا يتفاعل معها كل مرة كما لو أنها المرة الأولى بدافع عقائدي وعاطفي. هذا النوع من المسرح الديني التقليدي أثار إعجاب المخرج المسرحي بيتر بروك عندما شاهده في طهران في السبعينيات، واستلهم جزءًا من نظريته المسرحية منها.