22 Feb
22Feb

تقف هذه الزاوية مع شخصية ثقافية عربية في أسئلة سريعة عن انشغالاتها الإبداعية وجديد إنتاجها وبعض ما تودّ مشاطرته مع قرّائها. "يشغلني تشكيل محكمةٍ مستقلّة لمحاكمة مَن استفردَ بالسلطة والثَروةِ وأفقر 13 مليون عراقي"، يقول الباحث العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".

■ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

ما يشغلني هو تحويل مسار العمليّة السياسية، من سكّة المُحاصصة إلى سكّة بناء دولة مؤسّسات مدنيّة، وتشكيل محكمةٍ مستقلّة لمحاكمةِ من استفردَ بالسلطة والثَروةِ وأفقر 13 مليون عراقي، في سابقةٍ ما حصلت بتاريخ العراق السياسي، وعودة الكفاءات من بلدان الشتات، ليسهموا في ازدهار الثقافة والفنون، وإشاعة الحب كما كان لشعب ينبض قلبه بالحب، برغم أنَّ حياته مسلسل تراجيديّ من الفواجع والأحزان؛ لأنَّ الحُب معجونٌ في جينات العراقيِّين، من يوم ابتكر أجدادهم السومريّون أوَّل آلةِ قيثارةٍ وأوَّل عودٍ وأوَّل نصٍ غنائيٍّ في العالم.
■ ما هو آخر عمل صدر لك وما هو عملك القادم؟

صدرت لي في الفترة الأخيرة ثلاثة كتب هذا العام، الأول طُبع في الأردن بعنوان "حُسينان في العراق وحكّام شيعة أخجلوا الشيعة"، قدّم له أستاذ علم الاجتماع الدكتور فجر جودة بقوله: "هذا الكتاب يمتاز بالجرأة والموضوعيّة، لا يُقدم على كتابته إلّا من كان لا يخاف الموت في زمن يستسهل فيه الحاكم تصفية المُفكّر الذي يَشيع ثقافةَ الوعي لدى ملايينٍ استغفَلَهم وأذلَّهم وأفقَرهم". تَصدَّرته نصيحةٌ من مُحبّين: "نَخافُ عليكَ إن نشرته". وقد حصل. والثاني بعنوان "نقد العقل العربي السلطوي والديني من منظور سيكوبولتك"، مَنعت دخوله إحدى الدول العربية، والثالث بعنوان "فرويد.. الجنس والحب والدين والفن"، فيه تحليل لشكسبير ودوستويفسكي، ودافِع دافينشي الجنسي في إنتاجه "الموناليزا"، وسلفادور دالي والسرياليّة التي اعتبرَت فرويد "أبوها الروحي"، ولماذا اعتبره البعض "ثوريّاً"، قدّم خدمات لا تُقارن إلّا بما قدَّمه ماركس، فيما يرى آخرون بأنَّه الشخص الذي وجَّه الضربة القاضية للماركسيّة. ولماذا اعتبرهُ آخرون زنديقاً هدفَ إلى تهديم الأخلاق والدين، فيما رأى آخرون بأنَّ أحداً من المُفكّرين منذ أرسطو، لم يوفَّق إلى فهم الطّبيعة الإنسانيّة، مثل ما وُفِّق فرويد. وقد حقّق الكتاب مبيعات جيّدة في معرضَي بغداد والقاهرة للكتاب الدوليَّين.


■ هل أنت راضٍ عن إنتاجك، ولماذا؟

نعم، في ما يخصُّ التأليف؛ فهناك تسعة مؤلّفات منهجيّة تُدرَّس بجامعات عربيّة. أروي هنا شاهداً. كُنّا في مؤتمرٍ دوليٍّ، وكان رئيس الجلسة دكتوراً أردنيّاً، وبعد أن ألقيتُ بَحثي سألني: هل أنت مؤلّف كتاب "سيكولوجيا إدراك اللّون والشكل؟". ولحظة أجبته بنعم، قبّلني على جبيني وقال: "إنَّ كتابَك هذا أُدرِّسه لطلبتي في كليّة الفنون الجميلة بالجامعة الأردنيّة". وهناك أكثر من أربعينَ كتاباً في الثقافة العامّة، أقدَمها كتابان صدرا في ثمانينات القرن الماضي، وهما: "الإنسان من هو؟" عن وزارة الثقافة، و"الإبداع في الفن" الصادر عن وزارة التعليم العالي. المؤشّر الأهمّ عن رضا الكاتب - برأيي - هو نفاد كتبه، وقد حصل ذلك بإعادة طَبع أكثر من عشرة مؤلّفات، وبعضها جرى استنساخه بشارع المتنبّي مثل "الشخصيّة العراقيّة من السومرية إلى الطائفية".

■ لو قُيّضَ لك البدء من جديد، فأي مسار كنت ستختار؟

علميّاً، سأختار علم النفس بعد أن تحرَّر من أُمّه الفَلسفة، وأصبح علماً مستقلّاً انفتح على علومٍ تطبيقيَّةٍ، أوصلته إلى أنَّ كلّ الأفكار والعمليّات العقليّة ذات أساسٍ بيولوجي، وأنَّ النَّفس بكلِّ ما فيها من آمال، حب، رغبات ومخاوف؛ تحتويها مراكز مُتخصِّصة بداخل جُدران الجُمجمة، واعتماده التَّرابط بين علم السلوك وعلم المخّ. وقَبلها اكتشاف فرويد للعقل الباطن، ووصفه الأحلام بأنَّها ليست مجرّد هلاوس لا معنى لها، بل نافذة نطل منها على رَغباتنا المكبوتة في عقلنا الباطن. وما يستهويك بعلم النفس أنَّه يهدف إلى فكِّ لُغز الشخصيّة الإنسانيّة، وما يُمتِّعُكَ فيه أنَّه في كلِّ عَقدٍ يَفكُّ ألغازاً جديدةً، آخرها "علم النفس الإيجابي"، الذي اعتمد منهجاً جديداً لدراسة ما يجعل الناس سُعداءَ ومُتفائلين ومُنتجين، بل إنَّه وصل مؤخَّراً إلى اكتشاف أنَّ طَرفة العَين تُمثِّلُ قوَّة التَّفكير بدون تفكير. وأظنَّ أنَّ هناك من يتَّفق معي في أنَّ أمتعَ فضولٍ علمي هو معرفة "الإنسان.. من هو؟"، ومواصلة فكّ المخفيّ منه في ألغازٍ لا تنتهي.


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

أن يشيع الوعي الثقافي الانتخابي بين الشعوب؛ ليأتوا بحكّامٍ يُسعِدون شعوبهم ويعملونَ على أنْ تسودَ العالَمَ ثقافةُ السلام.


■ شخصية من الماضي تود لقاءها، ولماذا هي بالذات؟

الدكتور علي الوردي؛ لذكرياتٍ شخصيَّةٍ ومشاكساتٍ علميّة. فأنا كنتُ أقرب الأكاديميّين لنفسه، وكنت أحرُص على أن أدعوه للنَّدوات العلميّة التي تُقيمها مراكز البحوث، ورغم أنَّني كنتُ أُشاكسه علميّاً في تنظيره عن الشخصيّة العراقيّة، ونَشرتُ مقالةً بعنوان "نظريّة علي الوردي لم تعد صالحة"، فإنَّه لحظةَ كُنت على فِراش موته قال لي: "تدري أنّي ما أحبّ الماركسييّن بس إلك، ما إعرف ليش أحبّك، تعال انطيني بوسة"، فكانت القُبلةً والدمعة معاً، وللأسف لم يحظَ بالتكريم الذي يستحقّه، ولم يأخذوا بمقترحنا يوم طالبتُ في مناظرةٍ تلفزيونيّة بإقامة تمثالٍ له في رأس جسر الأئمّة من جهة الكاظميّة ويده مفتوحة باتجاه الأعظميّة، ومع ذلك يبقى الوردي مفكّراً من طراز رفيع، جريء، جدلي، ساخر، واستذكاره يُنبِّهنا إلى حقيقةٍ أزليّة، هي أنَّ الطُّغاة زائلون والعلماء خالدون.


■ صديق/ة يخطر على بالك أو كتاب تعود إليه دائماً؟

"الحب في زمن الكوليرا"، لا تكاد تمرُّ عطلة صيفيّة دونَ أن أتصفَّح أو أعيد خِلالها قراءةَ رائعةِ ماركيز. ولقد شاهدت أحداث الرّواية في فيلمٍ سينمائيٍّ بالعنوان نفسه، تعامل المخرج معها بطريقةٍ تجعلك تَرغب في مشاهدته ثانية. وكنتُ شخَّصتُ حالة بَطل الرواية في مقالٍ منشور، بأنَّه مُصابٌ بـ"عصاب الحب". فلحظة مات زوج حبيبته قال بالنص: "هذهِ هي اللحظة التي انتظرتها 51 سنة و9 أشهر و4 أيام، والآن منّ الله عليّ بتحقيقِ عهد الوفاء الأبديِّ والحُب السرمديّ". وأعني بالعُصاب دافعاً قَسريّاً يُسيطر على صاحبه ويلّح عليه لتنفيذه، ولن يدعه يرتاح إلاّ حين يُحقِّقه، وبوصف البطل فلورنتينو الجميل: "أنَّها - ويقصد حبيبته - شظية لا يمكن إخراجها!". تنتهي الرّواية والفيلم أيضاً بمشهدِ زواج العروسين في سفينةٍ يُطلب من قُبطانها رفع العلم الأصفر للدَّلالة على وجود إصابات كوليرا فيها، ليبقى مع حبيبته بالبحر... للأبد!


لو قُيّضَ لي البدء من جديد لاخترتُ علم النفس مرّة أخرى
■ ماذا تقرأ الآن؟

مستمتعٌ بقراءة ثلاث روايات: "الأبله" لدوستويفسكي، "الاحتقار" لألبيرتو مورافيا، و"الخوف" لشتيفان تسفايغ، والتي تحولت إلى فيلم سينمائيّ من إخراج روسليني وبطولة أنغريد برغمان، وهذا الروائي صديق فرويد، والمفارقة أنَّه مات منتحراً!


■ ماذا تسمع الآن، وهل تقترح علينا تجربة غنائية أو موسيقية يمكننا أن نشاركك سماعها؟

للأسف فإنَّ معظم أغاني الجيل الجديد هابطة، فلا أسمع إلّا القليل منها، لأن ذائقتي الفنّية تربّت على أغاني أم كلثوم، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم، وداخل حسن. أقترحُ الاستماع إلى حفلة ياني الموسيقيّة، وتحديداً المشهد الذي يَتبارى فيه عازفُ الكَمان مع عازفة الكمان الجميلة، وأن نستمع معاً إلى أغنية "ليدي" لـ ليونيل ريتشي، لأنّها مكتملة لحناً وموسيقى وأداءً وكلمات.


بطاقةعالم 

نفس وأكاديمي عراقي من مواليد بغداد عام 1949. عمل أستاذاً لعلم النفس في العديد من الجامعات العراقية والعربية. مؤسّس ورئيس "الجمعية النفسية العراقية" منذ 2003، كما شارك في تأسيس وعضويّة العديد من المؤسّسات والمكاتب النفسية والتعليمية والأدبية. من مؤلّفاته: "الإنسان من هو؟" (1984)، و"الشخصية بين التنظير والقياس" (1988)، و"الإبداع في الفن" (1988)، و"نظريات معاصرة في علم النفس" (1988)، و"الاضطرابات النفسية والعقلية والسلوكية من منظوراتها النفسية والإسلامية" (1998)، و"في سيكولوجية الفنّ التشكيلي" (2006)، و"الإبداع وتذوُّق الجمال" (2007)، و"الشخصية العراقية بين الجوهر والمظهر" (2012)، و"أزمة العقل العربي المعاصر" (2015)، و"إشكالية السلطة والدين في العالم العربي: تحليل سيكوبولتك" (2017).

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة