هناك مشكلة بين الدراما والتاريخ، يمكن أن نراها في المناقشات التي وصلت إلى حدود المشاجرات حول أعمال درامية تاريخية عرضت خلال العام الماضي، من Oppenheimer وNapoleon إلى "الحشاشين" وغيرها.وسبب هذه المشكلة عادة هو تعامل معظم الناس مع التاريخ، باعتباره علما له أصوله، واعتبارهم أن ما تذكره المصادر التاريخية حقيقة لا لبس فيها، لا ينبغي تشويهها أو التلاعب بها.
ولكن مهما كان صناع الفيلم أو الدراما مخلصين للتاريخ، فإن مجرد تحول القصة التاريخية المجردة، مثل هيكل عظمي، إلى عمل درامي من لحم ودم: حبكة وشخصيات وحوار ودوافع وصراع وممثلين وزاوية كاميرا وحجم لقطة وتكوين وألوان ومونتاج، فإن "الموضوعية التاريخية" تتنحى جانباً، تاركة المجال لوجهة النظر الذاتية، المنحازة، لهذا التاريخ.
بين الديني والدرامي
تزيد الإشكالية حين نتحدث عن النصوص الدينية، التي تحمل، وفقا لأتباع كل دين، "الحق المطلق"، ولا تعترف بالتاريخ أو الجغرافيا أو البيولوجي أو سائر العلوم، إلا بقدر ما تؤكد وتخدم هذا الحق المطلق، ذلك أن الهدف من هذه النصوص ليس المعلومة، بل الدرس الروحي والأخلاقي المستخلص من القصة.
هنا تفعل الدراما شيئاً في غاية الغرابة، هو عكس ما تفعله مع النصوص التاريخية، إذ تحول النص الديني الرمزي الميتافيزيقي إلى "تاريخ"، وتزداد الخطورة خطراً حين تطلب من المشاهدين أن يتعاملوا مع هذا النص باعتباره "تاريخاً" مطلقاً!
المسلسل الأكثر خبثاً
وعلى حد مشاهداتي وعلمي لا يوجد عمل روائي أو وثائقي قام بخلط الأوراق بين الدراما والدين والتاريخ، وتلاعب بهم جميعاً، من أجل أغراض سياسية خبيثة، مثلما فعل هذا العمل المسمى بـ Testament: The Story of Moses أو "العهد: قصة موسى"، الذي أنتجته وتعرضه منصة "نتفليكس" حالياً.
هذا عمل شائه، مشوه، يمثل أسوأ ما يمكن أن يصل إليه "التهجين" الفني، الذي أصبح "موضة" وإتجاها في عصرنا، حيث يختلط الروائي والوثائقي والتحريك وحتى برامج الكاميرا الخفية، بحجة الحرية والتجريب والابتكار، وأحياناً بدافع الخيبة والتشوش، وأحيانا، كما في حالة Testament: The Story of Moses، بهدف التزييف وتبرير السرقة والإبادة والاحتلال.عادة ما يسبق مثل هذه الأعمال الهجينة، التي تخلط الروائي بالوثائقي، والتاريخي بالدرامي، تنويه أحيانا ما يقصد به تنبيه المشاهد إلى التعامل مع العمل بحذر، وغالباً ما يقصد به التهرب من المسئولية والمراوغة من تبعات خلط الوثائقي بالتخيلي. وهكذا يستهل مسلسل Testament: The Story of Moses حلقاته الثلاثة بالعبارة التالية: "هذا المسلسل استكشاف درامي لقصة موسى والخروج، مدموجاً بوجهات نظر عدد من علماء دين ومؤرخين من ديانات وثقافات مختلفة، والهدف من مساهمتهم هو إثراء السرد، ولكن لا يجب اعتبارها شيئا عليه إجماع".
أجندة التعصب
في حوالي 4 ساعات يمزج المسلسل بين الروائي التمثيلي، وآراء عدد ممن يطلق عليهم رجال دين ومؤرخين، المختارين بعناية، ليس وفقا لكفاءتهم، ولكن لخدمة "الأجندة" السياسية والدينية المتعصبة التي يعتمدها المسلسل، مستغلاً قصة النبي موسى، المذكورة في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، لا ليشيع نوعاً من الحوار والمحبة المتبادلة أو الدعوة للتعايش، ولكن ليبرر لبني "إسرائيل" كراهية جيرانهم وقتلهم واغتصاب أراضيهم وأموالهم وحياتهم.يزعم المسلسل أن فرعون الكتب الدينية هو رمسيس الثاني، أعظم ملوك مصر، بالرغم من أنه لا يوجد مصدر "ديني" واحد يشير إلى اسم الفرعون، أو إلى وقائع أو تفاصيل تشير إلى عهد رمسيس الثاني، كما لا يوجد مصدر تاريخي واحد يشير إلى أي وقائع من قصة موسى حدثت في زمن رمسيس، وأبسط شئ، فقد قتل فرعون موسى في البحر الذي انشق ثم انغلق على الفرعون وجيشه، أما رمسيس الثاني فجثته دفنت في وادي الملوك مع بقية عظماء الملوك المصريين، ثم تم نقله إلى مكان أكثر أماناً، وجثته موجودة حالياً في المتحف الكبير.ولكن كل هذا ليس مهما بالنسبة لهوليوود، واللوبي الصهيوني، الذين يروجون أكذوبة أن رمسيس هو فرعون موسى في أفلام ومسلسلات وروايات وكتب تفيض بالأكاذيب.يقارن أحد الحاخامات، الذين يستعين بهم المسلسل كشهود عدل، بين رمسيس وهتلر.المقارنة ليست فقط فاسدة تاريخياً، ولكنها أيضا تلوح بلافتة إضطهاد النازي لليهود، التي تستغل منذ أكثر من 80 عاماً لتبرير الجرائم والمظالم التي ترتكبها الآلة الحربية الصهيونية، وهذا التلاعب الدعائي الفج، من قبل المسلسل وضيفه، هو الذي يذكر بما كانت تفعله الآلة الإعلامية للنازي.