30 Jul
30Jul

تشهد عيادات التجميل في سوريا ازدحاماً غريباً يعجز الناس العاديون عن تفسير أسبابه. وعلى عكس الواقع الاقتصادي والمعيشي المتردي، ثمة طفرة تشهدها مراكز التجميل المنتشرة بكثرة في البلاد.وتفيد تصريحات لأطباء تجميل ومسؤولين في وزارة الصحة السورية بإقبال متزايد على عمليات التجميل في العيادات ومراكز التجميل السورية، على الرغم من ارتفاع أسعارها إلى حد بعيد، قياساً بالرواتب المتواضعة التي لا تسد أدنى احتياجات الأسر.وتتجلى هذه المفارقة الغريبة التي تشهدها البلاد في معادلة تفيد أن 90% من السوريين يرزحون تحت خط الفقر، مع متوسط أجور لا يتجاوز عتبة الـ 400 ألف ليرة  سورية شهريًا (أقل من ثلاثين دولارًا)، فيما تحلق أسعار عمليات التجميل بشتى أنواعها لتتراوح ما بين 1 و 20 مليون ليرة سورية.لكن تفسيرًا نفسيًا ربما قدمه باحثون، باعتبار أن الأمر ليس ظاهرة تخص سوريا فقط، إذ سبق أن مرت العديد من المجتمعات بمثل هذه الظاهرة التي اتفق على تسميتها بـ"تأثير قلم الحمرة. 

عدوى.. فإدمان

تقول سحر (موظفة في شركة تأمين في العاصمة دمشق): "التجميل معدٍ.. بالرغم من أنني لم أفكر يوما بحاجتي إلى الأمر، لكن حين رأيت جفون وجبين صديقتي وكيف تغير شكلها، وعادت بالعمر 10 سنوات لم أستطع المقاومة". وتضيف: "من يجرب عمليات التجميل سيكررها كل بضعة أشهر".وتعترف الفتاة الثلاثينية العزباء "اليوم أحقن بوتوكس حول عيني وفي الجبين كل ستة أشهر.. أدخر أموالا لأقوم بذلك. لم يعد بوسعي التخلي عن ذلك.. أصبح الأمر وكأنه إدمان".لكن (ميس) أصغر من أن تجري عملية شد للوجه، فهي في سن العشرين، وتحمل ملامح طفولية، ومع ذلك ترى أن وجهها بحاجة إلى البوتوكس قبل أن تصيبه التجاعيد، ولذلك انتظرت دورها في عيادة طبيب التجميل لإجراء تجميل لم يكن ضروريًا حتى.. ومبررها أن صديقاتها فعلن الأمر ذاته.

عمليات التجميل "مزدهرة"

من اللافت أن أطباء التجميل على اختلاف اختصاصاتهم يملكون الرأي نفسه.يقول طبيب اختصاصي في الأنف والأذن والحنجرة، ويجري عمليات تجميل "ليس بالضرورة أن تكون كل الحالات التي تأتي إلى العيادة بحاجة إلى إجراء تجميلي".ويقدم مثالًا عن فتاة جاءت وطلبت "فيلر شفاه" على الرغم من أن حجم الشفاه لديها ضمن المقاييس الطبيعية ومناسب لحجم الوجه، أو أخرى أصرت على عملية لتجميل أنفها رغم أن أنفها طبيعي، أو ثالثة ترغب في عملية رفع للحاجب.ويقول الطبيب، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، إن الطلب على عمليات التجميل كبير جدًا، بدليل أن عيادته وغيره من أطباء التجميل لا تتوقف عن استقبال الراغبين بإجراء "تحسينات" على مظهر وجوههم، كذلك عيادات ومراكز التجميل التي تُفْتَتَح في مختلف المحافظات تعد دليلاً آخر على ازدهار هذا النوع من العمليات حسب قوله.ويلفت إلى أن الإقبال غريب جدًا ومفاجئ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الوضع الاقتصادي والمعيشي في البلاد، أو حتى حالة بعض الفتيات اللواتي يطلبن "خصومات" على العمليات

ملايين..

" استطلع العديد من الآراء لأطباء وزبائن أجروا عمليات تجميل، وخلص إلى قائمة بالأسعار التقريبية لمعظم عمليات التجميل التي تشهدها عيادات ومراكز التجميل.تكلف عملية قص أجفان علوية 3 ملايين ليرة (200 دولار)، وعملية شد وجه علوي 4 ملايين ليرة، فيما تتراوح تكاليف عملية شد وجه كلي بين 8-10 ملايين حسب الحالة (600 دولار). وتتراوح أجور عملية تجميل الأنف ما بين 4 و6 ملايين، بينما تكلف عملية رفع الحاجب 1 مليون.أما بالنسبة لعمليات نحت الجسم وشفط الدهون فتتراوح الأسعار ما بين 4 ملايين للنحت الجزئي كالخاصرة مثلًا، فيما قد تصل عمليات نحت الجسم كاملًا إلى 20 مليونًا (1300 دولار).وعلى الرغم من أن هذه الأسعار تعتبر رخيصة نسبيًا في بلدان أخرى، بيد أنها تعد باهظة قياسًا بأجور السوريين.

 تنافس.. 

ثمة تفسير نفسي للظاهرة، إذ يرى الطبيب النفسي والاستشاري في منظمة الصحة العالمية تيسير حسون، أنّ ازدياد عمليات التجميل في سوريا قد يكون أحد مفرزات ونتائج الحرب؛ فارتفاع أعداد الإناث قياسًا بالذكور، أدّى إلى ارتفاع معدلات التنافس بين النساء.وبيّن "حسون" في تصريح لـ"إرم نيوز"، أنّه يجب أن نفرّق بين مفهومين؛ عمليات الترميم وعمليات التجميل، مردفًا "عمليات الترميم تكون بسبب ضرورة طبية والذي يقررها هو الطبيب، بينما في عمليات التجميل الأدوار مقلوبة؛ المريض هو مَن يقرّر وليس الطبيب".ورأى أنّ الجراحة التجميلية هي أكثر المجالات الطبية ارتباطًا بالإعلان، وقد ازدهرت بسببه، وباتت في جزء كبير منها مادة إعلانية استهلاكية، مشيرًا إلى أنّ الأمر الذي يبعث على القلق هو أن "الإعلان عن اختيار أنف جديد، بات كشراء ثوب".

تأثير "قلم الحمرة"

عند ذكر "قلم الحمرة" سرعان ما يتبادر إلى الأذهان أن "قلم الحمرة" هو الشيء المعروف بين السيدات على أنه أداة من أدوات التجميل سهلة المنال والتي يمكن شراؤها من محل شعبي، أو من أهم محال ماركات أدوات التجميل.لكن لقلم الحمرة تأثير ونظرية سميت باسمه، ففي خضم الأزمات الاقتصادية، التي تعيشها سوريا حاليًا، يطفو على السطح “تأثير قلم الحمرة”.والتوضيح البسيط لاستخدام هذا المعنى، وفقًا لاقتصاديين، هو أنه عندما لا نستطيع شراء المنزل أو السيارة التي كنا نحلم بها بسبب الأزمة الاقتصادية، أو عندما لا نتمكن من قضاء العطلة الصيفية في أحد المنتجعات ونلغيها، سيكون بمقدورنا في المقابل شراء "قلم حمرة" من أفخر الماركات العالمية.وابتدع مصطلح "قلم الحمرة" ليونارد لاودر، رئيس مجلس إدارة شركة إستي لودر، في العام 2001، عندما لاحظ أن مبيعات أحمر الشفاه، ارتفعت بمعدّل 11% خلال الأزمة الاقتصادية في العام 2001.وجاء اقتراح لاودر بعد ملاحظته وجود علاقة تناسب عكسي ما بين الوضع الاقتصادي ومبيعات أحمر الشفاه، إذ حققت مبيعات أحمر الشفاه أداءً جيدًا في أثناء الأزمات الاقتصادية، وأداءً سيئًا عندما كان الاقتصاد قويًا.

تأثيرات مشابهة

في سوريا ظهرت تأثيرات أخرى مشابهة لنظرية "تأثير قلم الحمرة" شملت إلى جانب المنتجات الاستهلاكية، ما يمكن تسميتها "سلوكيات استهلاكية"، وعلى رأسها إجراء عمليات التجميل، وفقًا للخبير الاقتصادي عمار يوسف.يقول يوسف لـ"إرم نيوز": "يشكل أحمر الشفاه أحد الأمثلة التي تنسحب اليوم على الأجهزة الإلكترونية الصغيرة، النظارات الشمسية، والمطاعم الفخمة، وأيضًا على عمليات التجميل، حيث يُعَد "تأثير قلم الحمرة" أحد الأسباب التي تجعل قطاعات المطاعم والترفيه والتجميل تعمل بشكل جيد في أثناء الأزمات الاقتصادية".ويلفت إلى دراسة أجريت في سوريا تبين أن أغلب النساء السوريات خلال السنوات الأخيرة يصرفن ثلث رواتبهن على شراء مستحضرات التجميل سواء الماركات الوطنية أو العالمية منها، لكن ما أغفلته الدراسة حول الصرف على عمليات التجميل تؤكده تصريحات الأطباء وتقارير صادرة عن مسؤولين في قطاع الصحة.

فُرص أكبر

ويلفت الدكتور تيسير حسون لوجود دراسات أوروبية تفيد بأن الاختلال بين الجنسين لصالح ازدياد عدد النساء خلال الحربين العالميتين، دفع النساء إلى التنافس في سوق الزواج، وكان "تأثير قلم الحمرة" واضحًا في هذا التنافس؛ لأن المجتمع يضع قيمة أكبر على الأشخاص الجميلين.وأثبتت الدراسات أن الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أنهم أكثر جمالاً يميلون إلى الحصول على وظائف أفضل، وكسب المزيد من المال، والتمتع بمكانة اجتماعية أعلى من الأشخاص الأقل جاذبية، فلا عجب أن شركات مستحضرات التجميل نجحت في تسويق مستحضرات التجميل لتحقيق هذه الغاية، وربطت جميع أنواع السمات غير الملموسة باستهلاكها.ويقول: "لطالما استُغل استخدام الجمال الأنثوي في الثقافة الشعبية بلا هوادة؛ بسبب الارتباط المفترض بين مظهر المرأة وقياسها لقيمتها الذاتية.ويضيف: نفترض أنه يمكن قياس ذات الأمر على المجتمع السوري ما بعد الحرب، حيث تناقص عدد الذكور بشكل كبير نتيجة الحرب أو الهجرة واللجوء، لذلك يلاحظ توجه نسبة عالية من الفتيات إلى عيادات التجميل، كوسيلة تنافسية عالية للحصول على شريك، ويصل الأمر بالعديد من الفتيات إلى الاستدانة من أجل إجراء عمليات التجميل سواء للوجه ومكوناته، أو النحت والتنحيف وشفط الدهون.ومن جهة أخرى، تفسر بعض الدراسات النفسية لجوء المستهلكين الذين يعانون الضوائق المالية إلى التجميل بأنه طريقة علاج تنسيهم مشاكلهم المالية، أو أن ذاكرتهم الجينية تؤثر عليهم، وتدعوهم إلى البحث عن شريك.

"استثمار" أنثوي

ويفسر خبراء اقتصاديون لجوء النساء السوريات إلى مراكز التجميل بأنه "ربما يكون نوعًا من الاستثمار الأنثوي في تحسين مظهرهن ليكون لديهن فرصة أكبر بالحصول على عمل أو زواج أو ترقية وظيفية".ويقول عمار يوسف في تعليقه لـ"إرم نيوز"، إن "تأثير قلم الحمرة" بات واضحًا في سوريا ما بعد الحرب، بسبب الضغوطات التي يعيشها السوريون، حيث أصبح الاتجاه إلى الكماليات على حساب الأساسيات.ويضيف: الحالة النفسية هي التي تتحكم اليوم، وبسببها لا يتم التفكير بالوضع الاقتصادي من ناحية تأمين المبالغ اللازمة للقيام بالعمليات التجميلية، وإنما اللجوء إليها بات من باب الهروب من الواقع الاقتصادي الحالي.لكن يوسف يرى أنه رغم توسع سوق التجميل وانتشار مراكزه في كل المدن السورية، إلا أنه لا يمكن تحقيق أي دخل للاقتصاد الوطني من عمليات التجميل، وكل الإجراءات المتعلقة به. حتى بالنسبة إلى الدخل الذي يمكن توفيره من قبل الجنسيات العربية التي تقصد سوريا بهدف القيام بتلك العمليات أو ما يسمى السياحة العلاجية، فهي لا تحقق دخلاً للاقتصاد السوري يكاد أن يذكر.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2024 جميع الحقوق محفوظة - وكالة انباء النافذة