مع اقتراب عيد "وفاء النيل" الذي يحتفل به المصريون في الـ 15 من أغسطس من كل عام، تكثف قنوات التلفزيون المحلية عرض فيلم "عروس النيل"، إنتاج 1963، والذي لعبت بطولته لبنى عبد العزيز ورشدي أباظة.ورغم الرواج الكبير الذي شهده الفيلم حتى بات مقترنًا بتلك المناسبة، فإن باحثين أثريين ومختصين في علم المصريات يطالبون بوقف عرض هذا العمل، مؤكدين أنه يحمل "إساءة بالغة"و"تضليلًا واسع النطاق" للرأي العام حيث يرسخ لفكرة مفادها أن الحضارة الفرعونية عرفت "القرابين البشرية" وهو ما لم يثبت وفق أي مرجع تاريخي موثوق.
ويروي الفيلم قصة مهندس جيولوجي شاب يذهب إلى مدينة الأقصر التاريخية، جنوبي مصر، التي قيل إنها تحوي ثلث آثار العالم لينقب عن النفط. ويحذره السكان المحليون من أنه سوف يصاب بـ"لعنة الفراعنة" لأنه يحفر في منطقة تضم مقابر فرعونية، لكنه لا يبالي حتى تظهر له فتاة جميلة تدعى "هاميس" تخبره أنها ابنة إله الشمس "آتون"، وأنها مكلفة بمنعه من هدم المقابر، التي تضم رفات "عرائس النيل" وهن الفتيات اللاتي تم إلقاؤهن وهن على قيد الحياة في نهر النيل تقربًا له.
ويجمع الفيلم بين الكوميديا والفانتازيا مع خط رومانسي متصاعد، حيث لا يرى الفتاة الجميلة بزيها الفرعوني المميز إلا المهندس الوسيم وهو ما يعرضه للاتهام بأنه يعاني أوهامًا وتهيؤات.ويضم العمل أسماء ذات ثقل بين صنّاعهِ، مثل: المخرج فطين عبد الوهاب، والمؤلف سعد الدين وهبة، والمنتج رمسيس نجيب.
ويؤكد شاكر مجدي، كبير الأثريين بوزارة السياحة والآثار المصرية، أن مشكلة الفيلم أنه تحول إلى مرجع في الثقافة الشعبية التي يستقي منها العوام مصادر المعرفة من الدراما والكلام المرسل غير المدقق. ويلفت شاكر في تصريح خاص لـ"إرم نيوز" إلى أن أشهر مؤرخي العصر القديم وصاحب المقولة الشهيرة "مصر هبة النيل" وهو "هيردوت" لم يذكر أي شيء حول مزاعم تقديم قدماء المصريين لقربان بشري سواء للنهر أو غيره، رغم أنه زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد، ولم يترك شاردة أو واردة في علاقة المصريين بالنيل، إلا وتطرق إليها.
وأشار "شاكر" إلى أنه تم العثور على وثائق في "جبال السلسلة" بمدينة أسوان تتحدث عن عيد وفاء النيل وطقوس الاحتفال به قديمًا في عهد الملوك: رمسيس الثاني، وسيتي الأول، ومرنبتاح، ولا يوجد فيها أي إشارة إلى فكرة عروس النيل كما طرحها الفيلم. وتعززت خرافة إلقاء فتاة مصرية في توقيت معلوم من كل عام في نهر النيل تقربًا له على يد المؤرخ العربي أبو القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الحكم المتوفى في عام 871 م، والتي ذكرها في كتابه الشهير "فتوح مصر والمغرب".
وخلاصة القصة أن أهل مصر ذهبوا لعمرو ابن العاص بعد أن دخل بلادهم ليخبروه أن لديهم عادة تتمثل في إلقاء فتاة في النيل من كل عام، حتى لا يغضب ويظل يجري بمائه في أراضيهم، فرفض بن العاص التصريح لهم بالاستمرار في تلك العادة.وبعث له عمر بن الخطاب برسالة يلقيها في النيل يخاطب فيها خليفة المسلمين النهر، ويدعو الله بجريانه بأمر الله، فامتثل النيل وتدفق بقوة بعد أن كان تباطأ للغاية.
ويؤكد مجدي شاكر أنه لا يوجد مصدر تاريخي واحد يدعم تلك القصة المزعومة، كما إن محمود عباس العقاد في كتابه الشهير "عبقرية عمر" دحض تلك القصة التي طُرحت بعد أكثر من 200 سنة من دخول الإسلام إلى مصر. واللافت أن أشهر وأهم المؤرخين والرحّالة والجغرافيين العرب الذين زاروا مصر لاحقًا، وأقاموا بين أهلها لم يذكروا تلك القصة إطلاقًا.ومن أبرز هؤلاء المسعودي في كتابه "مروج الذهب ومعادن الجوهر" 956 م، والكندي في "فضائل مصر" 961، وناصر خسرو في "سفرنامه" 1061، وابن جبير في "تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار"،1183 وعبد اللطيف البغدادي في "الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر"، 1194م.