يحلمون بمزرعة صغيرة وقنّ دجاج، بعد أن أقفرت مقاهي المدينة، واحتلها لاعبو النرد وعشاق الأراكيل ومتابعو المباريات. هكذا تطمح القلة الباقية من مثقفي دمشق، بعد أن فرغت الأمكنةُ، ولم يعد لها في القلوب أمكنة.ويحرص المثقفون على زيارة مقهى الروضة، بعد الثانية ظهرًا، حيث الروائي خليل صويلح لم يقطع علاقته بالمكان، رغم غياب أصدقائه الكتّاب إثر الحرب. "سألتقي خليل"، يقول الشاعر محمد عضيمة العائد من اليابان حديثًا. ويضيف"سأطمئن على كراسي الخيزران في المقهى بعد أن عصف بها الزمن".
ولا يبدو مقهى الهافانا القريب، أحسن حالًا من مقهى الروضة، حيث يحرص الفنان جورج عشّي، على زيارة المكان لاسترجاع ما يمكن من الماضي. ويقول جورج "آتي مرتين في الأسبوع، التقي من تبقّى من أصدقاء شاخ بهم الزمن".في مقهى الكمال القريب، لن نعثر على الشاعر صقر عليشي، فقد غيّر عادته اليومية، في نفث أركيلة التنباك، بعد أن احتل لاعبو الورق مقاعد المقهى، وحوّلوا المكان لإحياء حفلات الصراخ. "سأعود إلى عين الكروم يومًا"، يقول صقر بعد أن يداهمه الأسى.
تحقيق حلم العودة للريف، ليس سهلًا. خاصة عند مثقفي المدينة الذين لم يرثوا أراضٍ وتركات، فيما يحلم المتحدّرون من المدن الأخرى، بقضاء بقية عمرهم مع أشجار الزيتون والطيور التي تكفيهم قوت يومهم.يقول الفنان حسام نصرة لـ"إرم نيوز": "لقد تبدلت دمشق كثيرًا، وأصابها الإنهاك. ويبدو خيار الانعزال في مزرعة بريف حماة، جيدًا بعد أن أثخنتنا الحرب".نتابع الطريق إلى مقهى "الشرق الأوسط"، فنتأكد أن المكان أخذ نصيبًا كبيرًا من اسمه. المسنون هنا يغلبون على الرواد، والمساحات الممتدة من الكراسي الفارغة، تختصر ما حلّ بهذا المقهى القديم.منذ أشهر، عاد مدير المراكز الثقافية سابقًا، حمود الموسى، إلى مدينته الرقّة، مفضلًا العناية بالمئات من أشجار الزيتون والمزروعات، على مقارعة الظروف القاسية في المدينة.في الرقة، مدينة سلوقس الأول، وعاصمة الدولة العباسية الصيفية التي بناها الخليفة المنصور، أسس حمود الموسى في الماضي، مهرجانًا ثقافيًا شارك فيه أشهر الكتاب العرب، واليوم يتمنى لو يستعيد هذا الألق ثانية على ضفة الفرات.يقول حمود الموسى "بانتظاركم في بساتين الرقة"، لكن المنطقة هناك ما زالت تعاني الحرب، وتعتبر أراضيها مناطق تماس خطيرة.
الحرب فتكت بالبلاد
الحرب أفرغت البلاد، ومن ضمنها المقاهي، يقول الشاعر محمد عضيمة، ويضيف لـ"إرم نيوز"ماذا يفعل المثقفون في المقاهي بظروف مماثلة، إن استطاعوا الوصول إلى المقهى؟ في ظل صعوبات المواصلات وغلاء فنجان القهوة ورحيل الأصدقاء؟". ويتساءل عضيمة، إن كان الهروب إلى الريف "لمن عنده ريف"، من أجل الكتابة أفضل؟ ويراها عملية معقدة ومتعبة ومكلفة. لكن إذا كانت هي المخرج الوحيد من ضغط المدينة المادي، فهو يؤيدها. ويقول"مواقع التواصل أصبحت مقاهي المثقفين الحقيقية. فما كان يدور في تلك المقاهي شفهيًا، يدور اليوم كتابيًا على الشاشة الزرقاء بجرأة أكثر وموضوعية. لكن من دون حميمية المواجهة وحميمية التهديد بالكراسي إذا ما تضاربت الآراء!".يحسم محمد عضيمة أمره، بعد أن تقاعد من تدريس اللغة العربية في جامعة طوكيو، ويقرر الاستقرار في قريته باللاذقية، بدلًا من دمشق. ويقول "إن الطبيعة كفيلة بمداواة الإنسان وإعادة الاستقرار إليه".
أصدقائي الزيتون والفرات
يعتني الكاتب حمود الموسى، بـ1000 شجرة زيتون على شاطئ نهر الفرات، ويسميهم بأصدقائه الأوفياء الذين لا يمل اللقاء معهم بجوار النهر الخالد، ويقول "العودة للأرض تشكل حلًا في هذه المرحلة. فكلما أتعبتنا الأغصان، نعود للجذور للتعافي وشحذ الروح من جديد".الفنان نبيل السمّان، يرى أن العودة إلى الطبيعة، تعتبر دواء بعد التقاعد. ويضيف لـ"إرم نيوز""المثقفون المتحدّرون من الأرياف، لديهم فرصة في تحقيق هذا الحلم. لكن أبناء المدينة يعانون من الأسعار العالية للمزارع في ريف دمشق".ويتحدث النحات حسام نصرة، عن مشغله الذي سينشئه في أرضه الصغيرة، ويذكر لنا أنواع الطيور والحيوانات التي سيقتنيها. ويضيف "ربما تكون العودة إلى الطبيعة، دافعًا لاكتشاف فضاءات أخرى، ففي زمن الإنترنت والاتصالات الحديثة لا يوجد قطيعة اجتماعية، بل من الممكن أن ينتج الإنسان أكثر في البريّة".ويضطر الكثير من الفنانين والكتاب، للمكوث في المدينة حتى ينهي أبناؤهم دراسة الجامعة. ويعاني معظمهم من صعوبة التنقل والزحام وارتفاع أسعار المواصلات، عدا عن غلاء المعيشة في المدينة بشكل عام.حلم المثقفين بشجرة وساقية ماء وطير أليف، يعكس الحياة الصعبة التي يكابدونها في المدن، حيث الحياة السريعة تلتهم كل شيء، ولا تترك فسحة لعشاق الخيال لإطلاق أفكارهم على هواها كما يشتهون.